تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ورجَّح هذا القولَ إمام المفسرين الطبريُّ قائلا: " وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في خاصّ من الناس وقال: عنى بقوله تعالى ذكره: "لا إكراه في الدين" أهلَ الكتابين والمجوس وكل من جاء إقرارُه على دينه المخالف دينَ الحق، وأخذُ الجزية منه " ([14]) هذا رأي هؤلاء الأعلام أئمة التفسير الذين لا يجوز اتهامهم بالتكلف البارد.

فالآية بكل تأكيد لا تتناول إلا الإكراه على الدين ابتداءً، ولو قلنا إنها على إطلاقها فإننا بدون وعي نقدم أكبر هدية للمتفلتين من الدين بحجة عدم الإكراه فالحجاب لمن شاءت ولا إكراه فيه، والصلاة لمن شاء ولا إكراه فيها، والحبل على الغارب.

أما الآية الثانية فلا يخفى على من له تمرس بأساليب اللغة العربية أنها نوعٌ من التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن ما يلحقه من الحزن والأسى على إصرار الكفار على ما فيه هلاكهم، " قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان جميع الناس، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول" ([15]) ويقول الإمام ابن عاشور: " فنزّل [الله تعالى] النبيَّ صلى الله عليه وسلم - لحرصه على إيمان أهل مكة وحثيث سعيه لذلك بكل وسيلة صالحة - منزلةَ من يحاول إكراههم على الإيمان حتى ترتب على ذلك التنزيل إنكارُه عليه " ([16]).

ثانيا: الأثر المروي عن عمر

فقد روى البيهقي في السنن وعبد الرزاق في المصنف عن أنس رضي الله عنه قال: بعثني أبو موسى بفتح "تستر" إلى عمر رضي الله عنه، فسألني عمر - وكان ستة نفر من بني بكر بن وائل قد ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين - فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قال: فأخذت في حديث آخر لأشغله عنهم، فقال:ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قلت: يا أمير المؤمنين! قومٌ ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين، ما سبيلهم إلا القتل، فقال عمر: لان أكون أخذتهم سلما أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من صفراء أو بيضاء، قال: قلت: يا أمير المؤمنين! وما كنت صانعا بهم لو أخذتهم؟ قال: كنت عارضا عليهم الباب الذي خرجوا منه أن يدخلوا فيه، فإن فعلوا ذلك قبلت منهم، وإلا استودعتهم السجن" ([17])، ونلاحظ أولا في هذا الأثر الشريف عدة إشكالات تحتاج إلى جواب شاف، منها: أن عمر لم يكن يريد أن يترك هؤلاء النفر لحال سبيلهم، بل إنه أراد أن يستتيبهم ثم يودعهم السجن وما أعظم السجن من عقوبة، فأين ذلك من قول من قال: "ولكن لا يؤذيه أحد في الدنيا بأمر السلطان "، هل من الوارد أن يعزم عمر على سجن هؤلاء المرتدين لو كان يؤمن بأن المرتد ليست عليه عقوبة دنيوية؟ ثم إنه من الواضح أن هؤلاء النفر قد ارتدوا ردةً " عسكرية " على رأي الأستاذ الشنقيطي حين لحقوا بالمشركين وقتلوا في المعركة، فما وجه المساواة بينهم وبين "المرتد المسالم

للإجابة عن هذا الأثر وإشكالاته يجب أن نلاحظ أن الإمام البيهقي قد أورده ضمن الخلاف في مدة الاستتابة تحت عنوان "باب من قال يحبس ثلاثة أيام" ولم يَفهم منه إنكارَ حد الردة، فإذا أضفنا إلى ذلك ما تقدم من الإجماع وأن أياًّ من كتب الخلاف لم ينسب إلى عمر رضي الله عنه إنكار حد الردة فإننا نستطيع أن نفهم من الأثر أن عمر رضي الله عنه إنما كان يريد أن يسجن القوم ويطيل أمد استتابتهم، فإن تابوا وإلا قتلهم.

ثالثا: رأي الإمامين الثوري والنخعي

لقد ذهب الإمام إبراهيم النخعي وتبعه سفيان الثوري إلى أن المرتد يستتاب أبدا ([18])، فكيف يستقيم ذلك مع الإجماع الذي تقدم؟ ننبه أولا إلى أن عزو الأقوال الغريبة إلى العلماء الذين انقرضت مذاهبهم يحتاج إلى كثير من التحفظ والاحتياط، إذ لا يُدرى هل لها تقييد أو تخصيص لم ينقل، بل إن بعض العلماء أخطأوا أخطاء كبيرة في نقل أقوال المذاهب الأخرى التي ما تزال موجودة، فهذا الإمام النووي مثلا ينسب للإمام مالك قولا بإباحة لحوم الحمير ([19])، وهو خطأ ظاهر، ولولا أن المالكية متوافرون وكتبهم موجودة لكان هذا العزو مثيرا للتشويش، ثم إن أياًّ ممن عزا لهما هذا القول لم يعز لهما القول بإنكار العقوبة، بل قد تردد ذكر الرأي في معرض آراء القائلين بالاستتابة في مقابل القائلين بالقتل دون استتابة، بل قد ورد نص العزو عند

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير