تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

النووي هكذا: " وقال الثوري يستتاب أبدا ويحبس إلى أن يتوب أو يموت "، وعند أبي حيان هكذا: " فذهب النخعي والثوري: إلى أنه يستتاب محبوساً أبداً " فعقوبة السجن على الأقل موجودة عندهما، ولذا فإن التعبير بأن الإمامين " أنكرا حد الردة " لم يوافق ما وقفنا عليه على الأقل، أضف إلى ذلك أن النخعي يرى — مع آخرين — وقْفَ مال المرتد ومنعه من التصرف فيه، يقول الإمام السبكي في تكملة المجموع: "وقال ابن جريج الناس فريقان، منهم من يقول ميراث المرتد للمسلمين، لأنه ساعةَ يكفر يوقف فلا يقدر منه على شيء حتى ينظر أيسلم أم يكفر، منهم النخعي والشعبي والحكم بن عتيبة، وفريق يقول لأهل دينه" ([2])،فأين كل هذا من قول من قال: " ولكن لا يؤذيه أحد في الدنيا بأمر السلطان "، و" من ارتد عن دينه فلا إكراه في الدين، ولا استتابة أو عقوبة بالسلطان "؟

ولذا فإن المطلوب هنا هو إيجادُ تفسير لهذا القول الشاذ وليس ردَّ الأحاديث الصحيحة به، وقد تنبه إلى ذلك بعض من نقلوا القول، فصاحب "عون المعبود" يفسر ما نقل عن النخعي بأنه يعني به تكرر الاستتابة كلما تكررت الردة خلافا لمن يجعل للاستتابة حدا لا تزيد عليه، يقول: " وعن النَّخَعِي يستتاب أبدا. كذا نُقل عنه مطلَقا، والتحقيق أنّه فيمن تكررت منه الرّدّة " ([21]) ولعل هذا التفسير يصلح لهما معا فالثوري إنما اتبع النخعي كما تدل الرواية التي رواها عبد الرزاق "عن الثوري عن عمرو بن قيس عن إبراهيم قال في المرتد: يستتاب أبدا. قال سفيان: هذا الذي نأخذ به" ([])، فالأليق والأوْلى أن نؤول قول الشيخين ليتواءم مع نصوص السنة الصحيحة وليس العكس.

رابعا: رأي الأحناف في المرتدة

قال بعض أئمة الحنفية بأن المرتدة لا تقتل وهو المشهور في مذهبهم، ولكن ما ذا بعدُ؟ هل تُكافَؤ على ردتها؟ إليك كلام أئمة الحنفية، يقول الإمام السرخسي في المبسوط: " ولا تقتل المرتدّة، ولكنّها تحبس، وتجبر على الإسلام عندنا" ([23])، وكيف يكون ذلك الإجبار؟ إليك كلام الإمام ابن الهمام: " ويُروى عن أبي حنيفة أنها تضرب في كل أيام، وقدرها بعضهم بثلاثة، وعن الحسن تضرب كل يوم تسعة وثلاثين سوطا إلى أَن تموت أو تُسلم ولم يخصّه بحرّة ولا أمَة، وهذا قتلٌ معنى؛ لأن مُوالاة الضرب تفضِي إليه " ([24])،ويقول قبل ذلك: " ولو قتلها قاتل لا شيء عليه لأَحد، حرةً كانت أو أَمةً "، فأين كل هذا من قول من قال أن الردة الفكرية " لا عقوبة عليها في القانون الجنائي الإسلامي"؟ لا أراني بعد هذا بحاجة إلى مناقشة الخلاف بين الحنفية وغيرهم.

لا ننكر أن الاجتهاد والتجديد فريضةٌ وضرورةٌ، ولكن لا بد له من منهج منضبط بقواعد وقوانين، أما هذا المنهج الجديد في استحصال قول لم يسبق إليه عن طريق تركيب آراء موزعة هنا وهناك لهو منهجٌ ينبغي التراجع عنه قبل فوات الأوان، وإن العلماء وإن اختلفوا في التلفيق بين المذاهب فقد أجمعوا على منع ما يؤدي إلى قول لا يقول به أحد من من جمعت أقوالهم، وإن ذلك لمنطبق في حالتنا بكل تأكيد.

هذا وغالبُ الظن عندي أن مرد القضية برمتها عند الإخوة المخالفين هو أنهم يرون في قتل المرتد نوعا من الإكراه يخالف المنطق العقلي ويضر بمصداقية الإسلام "وهو دين العلم والبرهان" على حد تعبير الأستاذ الشنقيطي.

حسناً، إن الإسلام دين العلم والبرهان والعلم والبرهان يقتضيان أن من دخل الإسلام وتبين له الحق ورأى النور بعيني بصيرته ثم يرتد بعد ذلك فليس لتصرفه من تفسير سوى أنه عنادٌ وخروجٌ مقصود عن القانون الإلهي يستحق صاحبه العقوبة التي أوجبها الله له، وقد أحسن الإمام السرخسي حين قال: " وبهذا تبين أنّ الجناية بالرّدّة أغلظ من الجناية بالكفر الأصلي، فإن الإنكار بعد الإقرار أغلظ من الإصرار في الابتداء على الإنكار كما في سائر الحقوق " ([25])، ثم لا يغب عن أذهان الإخوة أن رأي عمر رضي الله عنه بسجن المرتد نوعٌ من الإكراه أيضا، فالسجن ليس بالبشيء الهين وقد قال صلى الله عليه وسلم:" ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي) ([26])، ورأيُ النخعي والثوري بالاستتابة نوعٌ من الإكراه، وأما الأحناف فالإكراه عندهم أشد، ولذلك فإن تحكيم العقل إلى هذه الدرجة قد يجر أصحابه إلى أن يطرحوا سؤالا أكبر من ذلك، وهو: لماذا يعاقب الله

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير