فلا يعني هذا أن يكون المكثر من الرواية كذاباً، فإنَّ الذين أكثروا من رواية الحديث كانوا معنيين بسماعها وإسماعها، وكثير منهم كان أكثر مخالطة لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- من غيرهم من الصحابة، وكثيرٌ منهم نال بركةَ دعاء النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالحفظ والفقه؛ فقد دعا -عليه الصلاة والسلام- لابن عبَّاس بأن يفقهه الله في الدين، ودعا لأبي هريرة بحفظ الحديث، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- يكتب أحاديث رسول الله ولا ينكر عليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعلَه ذاك، وكانت عائشة -رضوان الله عليها - زوج رسول الله؛ تعلم عنه -صلى الله عليه وسلم- أموراً لم يعلمها الصحابة، وهكذا الأمر ممَّن أكثروا الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولقد ذكر علماءُ الحديث أنَّ إكثار بعض الصحابة من رواية الحديث كان بعد عهد الخلفاء الراشدين عندما اقتضى الأمرُ جمعَ حديث رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- خشية ذهاب الصحابة ووفاتهم، إذ إنَّ بعضهم كان يتورع عن الرواية، وحين رأى الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- أنَّ كثيراً من الصحابة قد توفاهم الله، قاموا يروون الحديث ليبلغوا لنا الدين حتى لا تندرس آثاره، وتنطمس حججُه.
ونحن على يقين بأنَّ الصحابة الكبار -رضوان الله عليهم- لو علموا أنَّ أحداً من الصحابة الصغار كذبوا -حاشاهم- لوقفوا في وجوههم، وبيَّنوا الحقيقة والصواب.
والمعلوم عن الصحابة الكبار أنَّهم كانوا يحترمون مجالسَ أولئك الصحابة الحفظة والنقلة لأحاديث رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وكان الصحابة الكبار كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضوان الله عليهم أجمعين- مشغولين بهموم الأمَّة العامَّة، وشؤون الخلافة وهموم رعيَّتهم، وليسوا كأولئك الصحابة الذين كان يتوفر لهم وقتٌ في التعليم والتدريس ما لا يتوفر لغيرهم.
والحاصل أنَّ (جمال البنا) خالفَ القطعياتِ القرآنيةَ الصريحةَ في تعديل الله عز وجل وتزكيته للصحابة، فجوَّز عليهم الكذب، ولعله لما شعر أنه بهذا قد خالف القرآن الكريم، عاد فجوَّز عليهم النسيان، ليُسْقِطَ بذلك روايتهم حسبما يريد، وتلك خطيئةٌ أكبر من أختها؛ فالأولى تخالف نصًّا قطعياً قرآنياً، والثانية تخالف نصًّا قطعياً آخر؛ لأن القرآن الكريم قد نص صراحة على تعهُّد الله بحفظ الوحي (القرآن والسنة) والذي يُجوِّز على مجموع الصحابة الكذب أو النسيان لمعالم الدين، وأصول الشريعة؛ فإنَّه يخالف النصوصَ القطعية في القرآن الكريم في تزكية الصحابة بمثل قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] وفي التعهد بالحفظ للدين في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ولنكن أكثر صراحة من أولئك الذين يستَخْفون خلف الشعارات، ويرفضون التصريح بمقاصدهم فنتساءل:
- هل المقصود الكلام عن شخص الصحابة ومكانتهم عند ربّهم؟
- أو المقصود الكلام عن روايتهم للدين؟
إن كان الأول فهذا معناه تكذيب الوحي الذي جاء بالترضي عنهم، وذكر ممادحهم وفضائلهم.
وإن كانت المسألة عن روايتهم للدين فقد حسم دينُ الإسلام القضيةَ عندما تعهد الله -عز وجل- بحفظ دينه فلا بد أن يكون الدين محفوظًا، فالذي يرفض روايات الصحابة ويُجوِّز عليهم الكذب أو النسيان لا مفر له من أحد أمرين: إما أن يأتينا بروايات أخرى وأناس آخرين يحملون لنا الدين، ولم يوجد ولن يوجد، فإن لم يستطع ولن يستطيع، فعليه أن يُنكر القرآن والسنة ويُنكر الدين نفسه، وبهذا أو ذاك، فهو خارج نطاق العقل والمعقول؛ لأن الذي اتفقت عليه عقولُ البشر قاطبة مسلمهم وكافرهم أن هناك ديناً اسمه الإسلام رواه قوم اسمهم الصحابة فهذه حقيقة مسلَّمة حتى لدى الكافرين!
(2)
التشكيك بصحَّة كثير من أحاديث الصحيحين
يضعِّفُ (جمال البنَّا) جمعاً من الأحاديث التي تواترت صحتُها عند علماء الحديث النقاد والمدققين؛ لأنَّه يراها تصطدم بالقرآن؛ فهو يرى أنَّ كل كتب السنة تعج بالموضوعات، ولا يستثني صحيحي البخاري ومسلم، ولهذا فقد ألَّف كتاباً في نقدهما سمَّاه (تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم)!
¥