والأشد وضوحًا في هذا المسلك هو الإمام ابن القيّم، وكتابه (مدارج السالكين) الذي شرح فيه كتاب "أبي إسماعيل الهروي" (منازل السائرين) أكبر برهان على ذلك. فإن القارئ يقف على كلامٍ للهروي، مخالفٍ للشريعة، وفيه عقيدة وحدة الوجود، ومع ذلك فإنّ الإمام ابن القيّم كان يعتذر له ويؤوّله بحيث ينفي عن الهروي تهمة القول بوحدة الوجود أو غيرها. وحجّة ابن القيّم في ذلك هي أنّ الهروي من أهل الدين والصلاح، ولا يُتصوّر منه أن يتكلّم بخلاف الشرع! (وهي حجّة الأمير نفسها مع ابن عربي)
قال الهروي: ((الدرجة الثالثة: صفاء اتصال. يُدْرِج حَظَّ العبودية في حق الربوبيّة! ويُغرق نهايات الخبر في بدايات العيان، ويطوى خِسَّة التكاليف في عين الأزل))!!!
فعلّق عليه الإمام ابن القيّم قائلاً: ((في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير، يَجْبُرُه حُسْنُ حالِ صاحبه وصدقُه، وتعظيمُه لله ورسوله. ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلاّ له. ولا ريب أن بين أرباب الأحوال وبين أصحاب التمكن تفاوتًا عظيمًا .. )) إلى أن قال ((ولولا مقَامُه في الإيمان والمعرفة، والقيام بالأوامر، لكُنَّا نُسيء به الظنّ)).انتهى [مدارج السالكين3/ 150ـ155]
وقال الهروي: ((وأمّا التوحيد الثالث: فهو توحيدٌ اختصّه الحقُّ لنفسه، واستحقّه لقدره، وألاح منه لائحًا إلى أسرار طائفةٍ مِنْ أهل صفوته، وأخْرَسَهم عن نَعْته، وأعجزهم عن بثِّه))!!! 3/ 511
ثم أنشد هذه القوافي الثلاثة 3/ 513 وهي:
ما وحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحد * إذْ كلُّ مَنْ وحَّدَه جاحدْ
توحيدُ مَنْ يَنْطِقُ عن نَعْتِه * عاريّة أبطَلَها الواحد
توحيده إيَّاه توحيده * ونَعْتُ مَنْ يَنْعَتُه لاحد
فراح الإمام ابن القيّم رحم الله يؤول هذا الكلام والشعر ويحمله على محامل حسنة، قال 3/ 515: ((فيُقال ـ وبالله التوفيق ـ: في هذا الكلام من الإجمال والحق والإلحاد مالا يخفى))
إلى أن قال: ((والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما: أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه. وقد كان شيخ الإسلام (يقصد الهروي) ـ قدس الله روحه ـ راسخًا في إثبات الصفات، ونفي والتعطيل، ومعاداة أهله وله في ذلك كتب مثل كتاب (ذم الكلام) وغير ذلك مما يخالف طريقة المعطلة والحلولية والاتحادية)).انتهى [مدارج السالكين3/ 521]
وكان ابن القيّم قال قبل ذلك: ((وقد خبط صاحب المنازل في هذا الموضع، وجاء بما يرغب عنه الكُمَّل من سادات السالكين والواصلين إلى الله. فقال: "الفكرةُ في عين التوحيد: اقتحامُ بحرٍ الجحود"، وهذا بناءً على أصله الذي أصَّله، وانتهى إليه كتابه في أمر الفناء، فإنه لمّا رأى أن الفكرة في عين التوحيد تُبعِدُ العَبْدَ من التوحيد الصحيح عنده، لأن التوحيد الصحيح عنده:لا يكون إلا بعد فناء الفكرة والتفكّر، والفكرة تدل على بقاء رسمٍ، لاستلزامها مفكِّرًا، وفعلاً قائمًا به، والتوحيد التامّ عنده: لا يكون مع بقاء رسم أصلاً، كانت الفكرة عنده علامة الجحود واقتحامًا لبحره، وقد صرَّحَ بهذا في أبياته في آخر الكتاب)).انتهى [مدارج 1/ 147]
إلى أن قال: ((فرحمة الله على أبي إسماعيل فتحَ للزنادقة باب الكفر والإلحاد، فدخلوا منه وأقسموا بالله جهد أيمانهم: إنه لمنهم وما هو منهم وغَرَّه سراب الفناء، فظن أنه لُجّة بحر المعرفة، وغاية العارفين، وبالغ في تحقيقه وإثباته، فقاده قَسْرًا إلى ما ترى)).انتهى [مدارج1/ 148]
وفي عبارة أوضح يقوا ابن القيّم: ((وأما صاحب "المنازل" ـ ومن سلك سبيله ـ فالتوحيد عندهم نوعان: أحدهما غير موجود ولا ممكن، وهو توحيد العبد ربه فعندهم:
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد
والثاني توحيدٌ صحيح، وهو توحيد الربّ لنفسه، وكل من ينعته سواه فهو ملحد، فهذا توحيد الطوائف، ومَن الناسُ إلاّ أولئك؟ والله سبحانه أعلم)).انتهى [مدارج السالكين 3/ 449]
إذن عندما يغلب على ظنّ الإنسان صلاح وعلم وتديّن شخص ما، فإنّه إذا وجد في كلامه عبارات تخالف الشريعة في ظاهرها، يسارع إلى تحسين الظنّ به، وحمل كلامه على محمل حسن والاعتذار له.
¥