وهذا الشّرط ليس بغريب فهو يشترط أيضا في نكاح المسلمة أيضا، قال تعالى في اشتراط العفّة: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، ولا يتسامح في هذا الشّرط بحال من الأحوال لا مع المسلمة ولا مع غيرها.
وقال تعالى في اشتراط الحرّية: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَات} [النّساء: من الآية25]، وهذا الشّرط يتسامح فيه مع المسلمة إذا لم يستطع المسلم نكاح الحرّة وخشي على نفسه العنت، وإن كان يُفضي إلى أن يصير ابنها عبدا تابعا لها فيملكه مالكها.
ولا يُتسامح في هذا الشّرط مع الكتابيّة، لسببين اثنين:
أوّلا: لدخول النّقص عليها من جهتين: جهة الكفر، وجهة الرقّ.
ثانيا: أنّ الأمة المسلمة إذا ولدت يصبح ولدها ملكا لمالكها وهو المسلم، فحتّى لو باعها فإنّه لا يبيعها لكافر، أمّا الأمة الكافرة يمكن بيعها لكافر، وهناك يدخل الولد تحت ولاية الكافر تبعا لأمّه، والله يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: من الآية141].
وممّن فسّر الإحصان بالعفّة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فقد أخرج البيهقيّ في " سننه " (7/ 172) وابن أبي شيبة في "المصنّف" (3/ 474) عن أبي وائل قال: تزوّج حذيفة رضي الله عنه يهوديّة، فكتب إليه عمر رضي الله عنه أن يفارقها، فقال: (إِنِّي أَخْشَى أَنْ تَدَعُوا المُسْلِمَاتِ، وَتَنْكِحُوا المُومِسَاتِ) قال البيهقيّ: " وهذا من عمر رضي الله عنه على طريق التّنزيه والكراهية، ففي رواية أخرى أنّ حذيفة رضي الله عنه كتب إليه: أحرام هي؟ قال: (لا، ولكنّي أخاف أن تعاطوا المومسات منهنّ) قال أبو عبيدة: يعني العواهر.
وقال الشّعبي في قوله تعالى: {وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}: " إحصان اليهودية والنّصرانية: أن تغتسل من الجنابة وأن تحصن فرجها .. " [" أحكام القرآن " للجصّاص (2/ 324)]، وممّن قال بذلك: السدّي، ومجاهد وسفيان.
2 - ألاّ تكون في دار الحرب:
إنّ آية المائدة الّتي دلّت على جواز زواج المسلم بالكتابية، لم تفرّق بين أن يتزوّجها في دار الإسلام أو في دار الحرب.
ولكن دار الحرب تختلف عن دار الإسلام، بأنّ السّيطرة في دار الإسلام للمسلمين الذين هم أهل الحل والعقد، يحكمون بشريعة الله التي أنزلها في كتابه وفي سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وتظهر فيها شعائر الإسلام، واحتمال ميل الزوجة إلى دين زوجها المسلم وارد، كما أن احترامها لآداب الإسلام، وعدم مجاهرتها بما يخالفها أقرب، إرضاءً لزوجها الذي يغيظه مخالفة دينه في الأخلاق وارتكاب المحرمات، وإن تساهل فيه مراعاة لمعتقدها الذي تزوجها مع علمه به.
وهذا بخلاف دار الحرب التي تكون الهيمنة والسيطرة فيها للكفار الذين هم أهل الحل والعقد، والحكم فيها إنما يكون بقوانينهم التي تخالف الإسلام، كما أن الشعائر الظاهرة فيها هي شعائر الكفر، وليست شعائر الإسلام، والأخلاق السائدة فيها هي أخلاق الكفار.
ولهذا تكون الزوجة الكتابية في بلاد الحرب، أكثر تمسكا بدينها وأخلاقها وعاداتها، وأقل ميلا إلى دين زوجها وأخلاقه بل إنه ليخشى على زوجها المسلم أن يتأثر بمحيط الكفر الذي يعيش فيه، ويخشى أكثر على ذريته من التدين بدين أمهم التي تربيهم عليه.
ولهذا اختلف العلماء الذين أجازوا زواج المسلم بالكتابية في دار الإسلام، في زواجه بها في دار الحرب.
- فقد ذكر القرطبي رحمه الله: أن ابن عبّاس رضي الله عنه سئل عن نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا؟ فقال: " لا يحلّ-وتلا قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ} إلى قوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} قال الرّاوي عنه: حدّثت بذلك إبراهيم النّخعي فأعجبه-يعني أنّ إبراهيم يقول بالتّحريم كذلك- وكره مالك تزوّج الحربيات، لعلّة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير. اهـ[الجامع لأحكام القرآن 3/ 69].
¥