تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولم يفتأ النبي صلى الله عليه وسلم يرقي الذوق على مستوى التصرف والسلوك، ليس في مجال المعاملات فحسب، ولكن أيضا في مجال الدعوة والإرشاد. وليس قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف" (رواه البخاري) وقوله: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" (متفق عليه) وقوله أيضا في فرض الإحسان على المؤمن في كل تصرفاته وأعماله التعبدية والعادية: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" (رواه مسلم)، إلا نموذجا لعشرات الأحاديث المنضوية تحت هذا المعنى الكلي الكبير: الإحسان في كل شيء؛ في الشعور والأخلاق والمعاملات والتصرفات والسلوك.

أسس الجمالية في الإسلام

ومن هنا - بعد هذه الشواهد النموذجية والمقارنات التقريبية - يمكن أن نخلص إلى أن أسس "الجمالية" في الإسلام تقوم على أركان ثلاثة، هي: المتعة والحكمة والعبادة. وباجتماعها جميعا في وعي الإنسان ووجدانه يتكامل المفهوم الكلي للجمالية في الإسلام.

1. الحكمة: فأما الحكمة فمعناها -هنا- أنه ما من "جمال" إلا وله هدف وجودي، ووظيفة حيوية، يؤديها بذلك الاعتبار. ذلك أنه ما من جمال في هذا الكون إلا وهو رسالة ناطقة بمعنى معين، هو حكمة وجوده ومغزى جماليته. فليس جميلا لذاته فحسب بل هو جميل لغيره أيضا. فعند التأمل في كل تجليات الجمال في الطبيعة، تجد أنها تؤدي وظائف أخرى هي سر جماليتها؛ من مثل الأهداف التناسلية الضرورية لاستمرار الحياة في الكائنات من الإنسان والحيوان والطيور والنبات ... إلخ. ففي هذا السياق تقع استعراضات الجمال الخارق مما وهبه الله للكائن الحي؛ لإنتاج الشعور بالجمالية مما ينتج عنه أروع التعابير اللغوية أو الرمزية، على جميع المستويات البشرية والحيوانية والطبيعية عموما، كل على درجة طبقته الفطرية من الوعي بالحياة والوجود الخِلقي. وما ذلك كله في نهاية المطاف إلا ضربا من قوانين التوازن في الحياة، واستقرار الموجودات والخلائق، تماما كما هو دور قانون الجاذبية في استقرار الحياة الأرضية، وتوازن الأجرام والكواكب في الفضاء. فالإحساس الجمالي- بما فيه من عواطف جياشة لدى الإنسان مثلا - ما هو إلا وسيلة وجودية لاستمراره وتوازنه. قال تعالى: (وَمِنْ أَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ أَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:20 - 21).

ونفس الحقيقة الجمالية التي نراها في الطبيعة والجبال والبحار والنجوم ... إلخ؛ ما هي -رغم التصريح القرآني بجماليتها في مقاصد الخلق- إلا مخلوقات تؤدي وظائف في سياق التدبير الإلهي للكون؛ خلقاً وتقديراً ورعايةً. ومن ذلك قوله تعالى على سبيل المثال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (البقرة:189). وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) (يونس:5) مشيرا بذلك إلى أن وظيفة الأقمار والأفلاك إنما هي إنتاج مفهوم الزمان؛ لتنظيم الحياة الكونية والإنسانية في أمور المعاش والمعاد معا، أي مجال العادات والعبادات على السواء. وكذلك ما ذكره الله من الوظيفة الجيولوجية والتسخيرية للجبال والأنهار والمسالك، في مثل قوله تعالى: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (النحل:15 - 16).

فكل المشاهد الجميلة في الحياة والكون -كما عرضها القرآن الكريم- لا تخرج عن هذا القانون الكلي، من حكمة الوجود ووظيفة الخلق.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير