تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

خطوطها والتواءاتها المتشكلة منها، وهي غالبا ما تكون ذات انحناءات مختلفة الألوان، كما قال الله تعالى بيض وحمر إلى ما يزينها من غرابيب سود، وهي الصخور الناصعة السواد ... إلى حركة اللون المنتشرة هنا وهناك في الحيوان والإنسان، مما لا يملك المؤمن معه إلا أن يكون من الساجدين لمن أفاض على الكون بهذا الجمال كله، الجمال الحي المتجدد. وإنها لآيات تربي الذوق الإنساني على جمالية التوحيد والتفريد، مما تعجز الأقلام والألوان عن تجسيد صورته الحية النابضة، وأي ريشة في الأرض قادرة على رسم الحياة!؟

وإنني لو قصدت إلى استقصاء جماليات القرآن الكريم من السور والآيات لجئت به كله، فهذه عباراته الصريحة وإشاراته اللطيفة كلها، كلها مشعة بتوجيهات ربانية لتربية الذوق الإنساني حتى يكون في مستوى تمثل مقاصد الدين البهية، بتدينه الجميل. فهل عبثا نصَّ القرآنُ على جمالية الكون والنعم والحياة؟ وهل عبثا نبه القرآن الحس البشري الإسلامي، وربَّاه لالتقاط دقائق الحسن والبهاء في مناظر الفضاء والأرض والجبال والشجر والنبات والبحار والأنهار والأنوار والأطيار؟!

إن الله تعالى خلق الحياة على مقاييس الجمال الإلهية الباهرة الساحرة، وأرسل الرسل بالجمال ليتدين الناس على ذلك الوِزان وبتلك المقاييس. ولذلك قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأتقياء، وإمام المحبين: "إن الله تعالى جميل يحب الجمال" (رواه مسلم). وفيه زيادة صحيحة: "ويحب معالي الأخلاق ويكره سِفْسافَها" (رواه الطبراني وابن عساكر)؛ مما يشير إلى أن الجمال مطلوب في أداء المسلم شكلا ومضمونا، مبنى ومعنى، رسما ووجدانا.

مواكب الجمال

فليكن الدين إذن سيرا إلى الله في مواكب الجمال (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 29 - 30) وإنها للطافة كريمة أن يجمع الحق سبحانه في مفهوم الدين، من خلال هذه الكلمات النورانية بين جمالين: جمال الدين وجمال الدنيا: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ليكون ذلك كله هو صفة المسلم.

ولقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تربية صحابته الكرام على كل هذه المعاني. وكيف لا، وهو أول من انبهر بجمال ربه وجلاله؛ فأحبه حتى درجة الخلة. قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه يوما: "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة (أبا بكر) خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله" (رواه مسلم)، وصح ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في سياق آخر: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا" (رواه مسلم). وكان يعلمهم كيفية سلوك طريق المحبة بعبارات وإشارات شتى، ما تزال تنبض بالنور إلى يومنا هذا، فانظر إن شئت، إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم الغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله! " (رواه مسلم) والغرة بياض في ناصية الحصان، والتحجيل بياض في يديه؛ فتلك سيم الجمال في وجوه المحبين وأطرافهم، يوم يرِدُون على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي سيم "ليست لأحد من الأمم" (متفق عليه)، بها يعرفون في كثرة الخلائق يوم القيامة، كالدر المتناثر في دجنة الفضاء. هذه ومضة الإبراق النبوي تبشر برشح الأنوار على أطراف المتوضئين الساجدين، رشحا لا يذبل وميضه أبدا!

النبي الكريم ميز جمال المحبين وسط الزحام واحدا واحدا. قال صلى الله عليه وسلم: "ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة! قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق؟ قال: "أرأيت لو دخلتَ صُبْرَةً (محجرا) فيها خيلٌ دُهْمٌ، بُهْمٌ، وفيها فرَسٌ أغَرُّ مُحَجَّلٌ، أما كنتَ تعرفه منها؟ " قالوا: بلى. قال: "فإن أمتي يومئذ غُرٌّ من السجود، مُحَجَّلون من الوضوء! " (رواه أحمد) فأي تذويق فني هذا للدين؟ وأي ترقية لطيفة للشعور هذه وأي تشويق؟

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير