" ويتفرَّعُ على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط، فإنْ كان أكثرُ ماله الحرامَ، فقال أحمد: ينبغي أنْ يجتنبه إلا أنْ يكونَ شيئاً يسيراً، أو شيئاً لا يعرف، واختلف أصحابنا: هل هو مكروه أو محرَّم؟ على وجهين:
وإنْ كان أكثرُ ماله الحلال، جازت معاملته والأكلُ من ماله. وقد روى الحارث عن عليِّ أنَّه قال في جوائز السلطان: لا بأس بها، ما يُعطيكم من الحلال أكثر مما يُعطيكم من الحرام. وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يُعاملون المشركين وأهلَ الكتاب مع علمهم بأنَّهم لا يجتنبون الحرامَ كلَّه.
وإنْ اشتبه الأمر فهو شبهة، والورع تركُه. قال سفيان: لا يعجبني ذلك، وتركه أعجب إليَّ.
وقال الزُّهريُّ ومكحول: لا بأس أنْ يؤكل منه ما لم يعرف أنَّه حرامٌ بعينه، فإنْ لم يُعلم في ماله حرام بعينه، ولكنه علم أنَّ فيه شبهةً، فلا بأس بالأكل منه، نصَّ عليه أحمد في رواية حنبل.
وذهب إسحاق بنُ راهويه إلى ما رُوي عن ابن مسعود وسلمانَ وغيرِهما منَ الرُّخصة، وإلى ما رُوي عَنِ الحسنِ وابنِ سيرين في إباحةِ الأخذ مما يقضي من الرِّبا والقمار، نقله عنه ابنُ منصور.
وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه: إنْ كان المالُ كثيراً، أخرج منه قدرَ الحرام، وتصرَّف في الباقي، وإنْ كان المالُ قليلاً، اجتنبه كلَّه، وهذا لأنَّ القليل إذا تناول منه شيئاً، فإنَّه تَبْعُدُ معه السلامةُ من الحرام بخلاف الكثير، ومن أصحابنا مَنْ حَمَل ذلك على الورع دُون التَّحريم، وأباح التصرُّف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه، وهو قولُ الحنفيَّة وغيرهم، وأخذ به قومٌ مِنْ أهل الورع منهم بشرٌ الحافي.
ورخَّص قومٌ من السَّلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنّه من الحرام بعينه، كما تقدَّم عن مكحولٍ والزُّهريِّ. وروي مثلُه عن الفُضيل بن عياض.
وروي في ذلك آثارٌ عن السَّلف، فصحَّ عن ابن مسعود أنَّه سُئِلَ عمَّن له جارٌ يأكلُ الرِّبا علانيةً ولا يتحرَّجُ من مالٍ خبيثٍ يأخُذُه يدعوه إلى طعامه، قال: أجيبوهُ، فإنَّما المَهْنأُ لكم والوِزْرُ عليه. وفي رواية أنَّه قال: لا أعلمُ له شيئاً إلاّ خبيثاً أو حراماً، فقال: أجيبوه. وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود، ولكنَّه عارضه بما رُوي عنه أنَّه قال: الإثم حَوَازُّ القلوب.
وروي عن سلمان مثلُ قولِ ابنِ مسعود الأول، وعن سعيد بن جبير، والحسن البصري، ومُورِّق العِجلي، وإبراهيم النَّخعي، وابنِ سيرين وغيرهم، والآثار بذلك موجودة في كتاب " الأدب " لحُمَيد بن زَنجويه، وبعضها في كتاب " الجامع " للخلال، وفي مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم.
ومتى علم أنَّ عينَ الشيء حرامٌ، أُخِذَ بوجه محرم، فإنَّه يحرم تناولُه، وقد حَكى الإجماعَ على ذلك ابنُ عبد البرِّ وغيرُه، وقد رُوي عن ابن سيرين في الرجل يُقضى من الربا، قال: لا بأس به، وعن الرجل يُقضى من القمار قال: لا بأس به، خرَّجه الخلال بإسناد صحيح، ورُوي عن الحسن خلاف هذا، وأنَّه قال: إنَّ هذه المكاسب قد فسدت، فخذوا منها شبه المضطَر.
وعارض المروي عن ابن مسعود وسلمان، ما روي عن أبي بكر الصدِّيق أنَّه أكل طعاماً ثم أخبر أنَّه من حرام، فاستقاءه.
....
وبكل حال فالأمور المشتبهة التي لا تتبين أنَّها حلال ولا حرام لكثير من الناس، كما أخبر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، قد يتبيَّنُ لبعضِ النَّاس أنَّها حلال أو حرام، لما عِنده مِنْ ذلك من مزيدِ علمٍ، وكلام النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يدلُّ على أنَّ هذه المشتبهات مِنَ النَّاسِ من يعلمُها، وكثيرٌ منهم لا يعلمها، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان:
أحدهما: من يتوقَّف فيها؛ لاشتباهها عليه.
والثاني: من يعتقدُها على غيرِ ما هي عليه، ودل كلامُه على أنَّ غير هؤلاء
يعلمها، ومرادُه أنَّه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم، وهذا من أظهر الأدلة على أنَّ المصيبَ عند الله في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلفِ فيها واحدٌ عند الله - عز وجل -، وغيره ليس بعالم بها، بمعنى أنَّه غيرُ مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر، وإنْ كان يعتقدُ فيها اعتقاداً يستندُ فيه إلى شبهة يظنُّها دليلاً، ويكون مأجوراً على اجتهاده، ومغفوراً له خطؤه لعدم اعتماده.
..... " أهـ
ووجدت التالي:
جاء في المدونة للإمام مالك:
« ... ابن وهب قال: وأخبرني أشهل بن حاتم عن عبدالله ابن عباس وسأله رجل هل يشارك اليهودي والنصراني قال لا تفعل فإنهم يربون والربا لا يحل لك». «ابن وهب وبلغني عن عطاء بن أبي رباح مثله قال إلا أن يكون المسلم يشتري ويبيع قال الليث مثله. وجاء فيها: «قلت هل تصح شركة النصراني للمسلم واليهودي المسلم في قول مالك (قال) لا إلا أن يكون لا يغيب النصراني واليهودي على شيء في شراء ولا بيع ولا قبض ولا صرف ولا تقاضي دين إلا بحضرة المسلم معه فإذا كان يفعل هذا الذي وصفت لك وإلا فلا».
وقال صاحب المهذب من الشافعية:
«ويكره أن يشارك المسلم الكافر، (وعلل) بأنهم يربون والربا لا يحل: أي قد يتعاملون بالربا وساق الأثر المروي عن ابن عباس».
وفي مغني المحتاج:
«ويكره مشاركة الكافر ومن لا يحترز عن الربا ونحوه وإن كان المتصرف مشاركتها لما في أموالهما من الشبهة».
وجاء في المغني:
«قال أحمد: يشارك اليهودي والنصراني، ولكن لا يخلو اليهودي والنصراني بالمال دونه، ويكون هو الذي يليه لأنه يعمل بالربا، وبهذا قال الحسن والثوري «قال ابن قدامة: ولنا، ما روى الخلال بإسناده، عن عطاء قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مشاركة اليهودي والنصراني، إلا أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم.
قال الإمام أحمد - رحمه الله -: «فأما ما يشتريه أو يبيعه من الخمر بمال الشركة، أو المضاربة، فإنه يقع فاسداً، وعليه الضمان، لأن عقد الوكيل يقع للموكل، والمسلم لا يثبت ملكه على الخمر، والخنزير، فأشبه ما لو اشترى به ميتة، أو عامل بالربا، وما خفي أمره فلم يعلم فالأصل إباحته وحله». "أهـ
¥