أ) أن الله تعالى أمر بغض البصر، وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله؛ سداً لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور.
ب) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكفّ عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة؛ لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه.
ثم قال ابن القيم بعد أن ذكر الأمثلة: (وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة).
ومن الأمثلة على الجهل بما تؤول إليه الأحكام: ما أفتى به أحدهم من تحريم شرب القهوة، وعلل ذلك بأنها مفترة بل ومسكرة – كما يقول – ومضرة للبدن، وأنها لم تكن في الصدر الأول. وأفتى آخر بحل وجواز شرب ماء (الماحيا) المسكرة الذي يصنعه اليهود شراباً لهم، وزعم أنها لا تسكر. والفتويان خطأ؛ وذلك بسبب عدم معرفة العالم لواقع ما أفتى به.
ثانياً / ردة فعل لظاهرة الغلو:
فمن أهم أسباب التيسير غير المنضبط أنه انعكاس لما حصل من غلوّ وتشدد عند البعض، كانت نتيجته ردة فعل قوية في الاتجاه المعاكس. والمتأمّل في أطروحات دعاة التيسير – لاسيما في علاجهم للغلو – ليجد أنهم قد وقعوا في خطأ مقابل نتيجة لفقدان التوازن في معالجة هذا الخطأ – أعني الغلو -، فتجد منهم مثلاً من ينظر إلى الشاب المعفي لحيته المقصر لجلبابه على أنه غال في الدين، ويشنّع عليه.
ثالثاً / ترغيب الناس في الدين:
من الواجب على أهل الإسلام أن يُحسنوا عرض هذا الدين للناس، ويحببونه إليهم، وذلك بطَرْق الوسائل والأساليب الدعوية التي من شأنها ترغيب الناس في الدين، فلا ينتهجون من أساليب الدعوة ما يُعطي صورة سيئة عن الدين؛ إلا أن البعض ظنّ أن من مقتضى التيسير موافقة رغبة الناس، رغبة في تقريبهم من التمسّك بالشرع الشريف. ولكن الواقع أثبت أن هؤلاء لا يدخلون إلى الدين من باب إلا ويخرجون من باب آخر.
رابعاً / إتباع الهوى:
والمقصود بالهوى: كل ما خالف الهدي الشرعي من الكتاب والسنة،ومن ذلك إتباع أهواء العامة والجري وراء إرضائهم بالتساهل، ويدخل فيه كذلك حب الظهور والشهرة بين الناس، وتوهم المفتي أن التيسير للناس براعة والتشديد عجز، ويدخل فيه أيضاً أن يكون العالم قد تورّط ببعض ما يُسأل عنه في حياته الشخصية فيحمله ذلك على البحث عن مخرج هنا أو هناك لما يعيشه من تلك القضايا حتى لا يُتّهم بالخروج عن النصوص الشرعية.
خامساً / مسايرة الواقع (ضغط الواقع):
قلنا سابقاً أن هذا الواقع لم يصنعه المسلمون بإرادتهم ولم ينعه الإسلام بعقيدته وشريعته،وإنما هو واقع فرض على المسلمين.
ولمسايرة هذا الواقع تجد من المعاصرين من يركب الصعب والذلول لتطويع النصوص للواقع، على حين يجب أن يُطوّع الواقع للنصوص، لأن النصوص هي الميزان المعصوم الذي يحتكم إليه ويعوّل عليه، والواقع يتغير فلا ثبات له ولا عصمة، ولهذا يجب ربد المتغير إلى الثابت، وغير المعصوم إلى المعصوم.
فتجد ضغط الواقع قد أثّر - مع الأسف – على آراء بعض المعاصرين من العلماء، منهم الذين لا يزال الدين أعزّ عليهم من كل شيء، ولكن الواقع يضغط عليهم بقوة، وهذا ما جعل كثيراً من أهل العلم يقرّون أشياء كانوا يُنكرونها منذ سنوات غير بعيدة.
سادساً / المؤثرات البيئية:
إن الإنسان لا يستطيع أن ينفك عن محيطه الذي نشأ فيه أو ينسلخ عن المؤثرات في تكوينه بشكل نهائي وإن حاول ذلك، لابد أن ترتسم فيه بصمات بيئته ووسطه الذي يعيش فيه، والإنسان ابن بيئته. والمؤثرات البيئية تندرج تحت قسمين أساسيين:
الأول: الأسباب الداخلية:-
1 - المؤثرات المكانية:
وقد ذكر ابن خلدون رحمه الله فصلاً في مقدمته جمع فيه جملة من المؤثرات في تكوين الإنسان بصفة عامة، ثم ذكر أن العوامل المكانية له أثر في أمزجة الناس وأخلاقهم وطباعهم، فنشأة العام أو الفقيه بين بداة تجعل حركته الفقهية أقل تطورا ممن ينشأ في الحضر والمدن التي تزدحم فيها الأقضية الجديدة.
¥