فقلنا: أبو بكر رضي الله عنه لم يكن يشدُّ إزاره مسدولاً على كعبيه أوّلاً، بل كان يشدُّه فوق الكعب، ثم فيما بعدُ يسترخي. و قد قال عليه السلام: " إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه؛ لا جناح عليه فيما بين ذلك و بين الكعبين " و مثلُ هذا النهي لمن فصَّل سراويل مغطيًّا لكعابه، و منه طول الأكمام زائدًا، و تطويل العذبة، و كل هذا خيلاء كامن في النفوس ... " اهـ.
*قُلْتُ: يرحم الله الذهبيَّ الحافظ، فقد كفى و شفى. و قد قال بعضُ العلماء: إن هذا خاصٌ بأبي بكرٍ رضي الله عنه، فهي واقعة عين لا عموم لها، و ليس ما قاله هذا العالم ببعيد، و قد ورد ما يدلُّ على أن النبيَّ صلى الله عليه و على آله و سلم فرّق بين أبي بكرٍ و بين ابن عمر في هذه المسألة.
فأخرج أحمدُ (2/ 147) قال: حدثنا عبد الرزّاق و هذا في " مصنفه " (ج11/رقم19980)، أنا معمرُ، عن زيد بن أسلم، سمعت ابن عمر يقول: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه و على آله و سلم يقول: " من جرَّ إزاره من خيلاء لم ينظر اللهُ عزَّ و جلَّ إليه ".
قال زيد: و كان ابنُ عمر يُحَدِّثُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه و على آله و سلم رآه و عليه إزارٌ يَتَقَعْقَعُ -يعني جديدًا-فقال: " من هذا؟ " فقلتُ: أنا عبدُ الله. فقال: " إن كنت عبد الله، فارفع إزارك " قال: فرفعته. قال: " زد ". قال: فرفعته حتى بلغ نصف الساق .. قال: ثمَّ التفت إلى أبي بكر فقال: " من جرَّ ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " فقال أبو بكر: إنه يسترخي إزاري أحيانًا. فقال النبيُّ صلى الله عليه و على آله و سلم: " لست منهم ". و هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين.
و قال الهيثميُّ في " المجمع " (5/ 123): " رجالُه رجالُ الصحيحِ ".
الثالث: أن هناك فرقًا بين من يرخي إزارهُ خيلاء، و بين من يرخيه بغيرها. فإن فعل المرءُ الأول، فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة و لا يزكيه و له عذابٌ أليمٌ كما في حديث أبي ذرٍ المتقدم.
و في حديث أبي هريرة، مرفوعًا: " بينما رجلٌ يمشي في حُلَّةٍ، تعجبُهُ نفسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إذ خسف اللهُ به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة ".
أخرجه البخاريُّ (10/ 258)، و أحمدُ، و النسائيُّ، و غيرُهم.
فهذا الذي يفعله خيلاء. أمَّا من جرَّه بغير خيلاء فقد ارتكب النهي، و وقع في المحظور فعله.
الرابع: أنه مما يدلُّ على أن إسبال الإزار لا يجوز:
ما أخرجه النسائيُّ (8/ 209)، و الترمذيُّ (1731) بسندٍ صحيحٍ على شرط الشيخين عن ابن عمر قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه و على آله و من سلم: " من جرَّ ثوبه خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة " فقالت أمُّ سلمة: فكيف يصنعن النساء بذيولهنَّ؟. قال: " يرخين شبرًا ". فقالت: إذًا تنكشف أقدامهنَّ. قال: " فيرخينه ذراعًا، و لا يزدن عليه ".
قال الترمذيُّ: " حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ".
و أخرجه أحمدُ (6/ 315) من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن يسار، عن أم سلمة به. و سندُهُ صحيحٌ أيضًا.
قال الحافظ ابن حجر العسقلانيُّ في " الفتح " (10/ 259): " أفادت هذه الرواية قدر الذراع المأذون فيه، و أنه شبران بشبر اليد المعتدلة، و يُستفاد من هذا الفهم التعقب على من قال: إنَّ الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال، مقيّدةٌ بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء، قال النوويُّ: ظواهر الأحاديث التي تقييدها البجر خيلاء، يقتضي أن التحريم مختصٌ بالخيلاء، و وجه التعقُّب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جرِّ ذيولهنَّ معنى، بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقًا سواءٌ كان مخيلة أم لا، فسألت عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهنَّ إلى الإسبال من أجل ستر العورة، لأن جميع قدمها عورةٌ، فبيَّن لها أنَّ حكمهنَّ في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط، و قد نقل القاضي عياضٌ الإجماعَ على أنَّ المنع في حقِّ الرجال دون النساء، و مرادُهُ منع الإسبال، لتقريره صلى الله عليه و سلم أمَّ سلمة على فهمها، إل أنه بيَّن لها أنه عام مخصوصٌ لتفرقته في الجواب بين الرجال و النساء في الإسبال، و تبيينه القدر الذي يمنع ما بعده في حقهنَّ، كما بيَّن ذلك في حقِّ الرجال. و الحاصل أن للرجال حالتين: حالُ استحباب، و هو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق، و حال جواز، و هو إلى الكعبين ... و يُستنبط منسياق الأحاديث أن التقييد بالجرِّ خرج مخرج الغالب، و أن البطر و التبختر مذمومٌ، و لو لمن شمَّر ثوبه ... " اهـ.
*قُلْتُ: و هذا كلامٌ نفيسٌ، تقرُّ به عين العالم المنصف، و أحبُّ للأستاذ أن يقرأه بتدبر، و أن يراجع الصواب من قريب، بدلاً من أن يظل سادرًا في استخفافه بمن يواظب على فعل الطاعات فإنه قال في المجلة المذكورة (ص22) عن الذين لا يسبلون أزُرَهم: " هؤلاء أناسٌ هم أنصاف متدينين، أو أنصاف متعلمين، فهم يحتاجون إلى من يعلمهم أن الجلباب (؟) القصير لا يُغني عن العقل و الخُلُق، و الأدب و العمل الطويل " اهـ.
كذا يقول الأستاذ (الداعية الكبير)!! و هل العقل و الخلق و الأدب ينافي أن يُقَصِّرَ الإنسان ذيله؟ ما هذا اللَّغو الذي لا طائل تحته؟!
و هذه نغمةٌ عهدناها من الأستاذ في أحاديثه و بعض كتاباته، يأتي بشيءٍ لا خلاف فيه من المُخالِف ثم ينكِّتُ عليه به. اهـ ...
انتهى كلام شيخنا المبارك .... الكلام القيّم النافع الذي يرد هذه الشبهة، و الذي يظهر الحقَّ.
و في الختام ندعو للشيخ أن يشفيه الله شفاءً لا يغادرُ سقمًا.، و أن يطيل في عمره و يبارك لنا فيه.، و أن يخرس ألسنة الذين يهاجمون الشيخ لأجل أنه يدافع عن السنة، و لأجل أنه يرد كيد كل خائن سفيه يعبث في مصادرنا الأصلية.
و الله ربنا المستعان و عليه التكلان ...... ؛
منقول