إنه يشكل على هذا النفي المطلق ما جاء في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه من إيجاب الهدي على أخته حينما نذرت أن تحج ماشية فلما لم تستطع وجب الدم عليها لا لمجرد عدم استطاعتها الوفاء بنذرها؛ لأن كفارة ذلك كفارة اليمين بل لكونها أوجبت على نفسها واجباً للحج.
ولذلك أعطي ترك هذا الواجب كفارة ترك الواجبات في الحج وهو الهدي الذي دل على وجوبه القرآن كما سبق ثم إن وروده في القرآن يكفي للاحتجاج به ولا يصح إسقاط هذا الحكم لمجرد الاعتراض على فتوى ابن عباس رضي الله عنهما وبهذا يعلم أن نفي وجوده في القرآن أو في السنة أمرٌ يصعب الإقدام عليه ما لم ينص عليه حفاظ السنة وحملتها كالإمام أحمد وغيره من أمراء الحديث وحفاظه والله الموفق.
كما تعقب العودة في قوله:
(وقد كان كثير من السلف لا يلزمون به ولكنهم يراعون حال السائل من الغنى والفقر وغير ذلك)
فقال:
لم يذكر أحدا من أصحاب القرون المفضلة قال بعدم جوب الدماء مطلقا على من ترك أي واجب لا من الصحابة رضي الله عنهم ولا من الأئمة المتبوعين.
ثم قال:
ما المراد من قوله:
(ولكنهم يراعون حال السائل من الغنى والفقر وغير ذلك)
لأننا نجد مراعاة حال الغنى والفقر موجودة في كتاب الله تعالى.
وذلك بوجوب الصوم على من لم يستطع هدي التمتع في القرآن، وقد أخذ الأئمة بذلك. كما قاسوا ما لم ينص عليه على ما ثبت به النص. وبهذا سقط الاحتجاج بقوله هذا.
بعد أن انتهى الشيخ إبراهيم الصبيحي من سياق أدلته على أثر ابن عباس في كتابه "حتى لا يقع الحرج"
التفت إلى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله – لأن هذا القول في الحقيقة أكثر من أبرزه وقرره واستدل له واشتهر عنه هو الشيخ ابن عثيمين رحمه الله –
فنازعه:
في كون استدلال ابن عباس مبنياً على قياس ترك الواجب على فعل المحظور، وفعل المحظور يوجب فدية من صيام أو صدقة أو نسك، وابن عباس اختار أكمل الثلاثة.
ووجه هذا الاستدراك:
أن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله لم يذكر أحداً سبقه إلى أن ابن عباس قال بهذا الاستدلال وذهب إليه.
ثم قال الدكتور الصبيحي:
ولذا أرى أنه لا يصح أن يقال بأن ابن عباس اختار أكمل الثلاثة ليلزم بها من ترك نسكاً أو نسيه لمخالفته بهذا دليل أصل القياس الدال على التخيير، ثم إن هذا الاستدلال يضعف دلالة قول ابن عباس، لأنه اعتبر أنه خالف أصل دليله، وفي هذا إشكال كما نرى، أما الأدلة التي تعضد قول عباس فهي ما سبق ذكرها. والله أعلم.
خلاصة المسألة:
الذي يبدو لي والعلم عند الله في مسألة لزوم الدم على من ترك شيئا من نسكه هو ما أفتى به ترجمان القرآن وحبر هذه الأمة وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، عبد الله ابن عباس:
وهو أن من ترك شيئا من نسكه الواجب فإن عليه دما.
وذلك لما يلي:
1 - أن هذا القدر من الأثر وهو الترك هو اليقين، أما زيادة النسيان فقد شك فيها أيوب، وقد رويت بدونها، وهي مشكلة على بعض الأصول.
2 - أن تقييد النسك المتروك بالنسك الواجب، هو ما فهمه أهل العلم.
3 - ويبدو كذلك أن النسك الواجب هو المقصود من أثر ابن عباس، وإنما أهمله لأحد أمرين:
- لوضوحه.
- أو أن الأنساك عنده لا تطلق إلا على العزائم في الحج كالمبيت في مزدلفة ومني ورمي الجمار ونحو ذلك.
وظهر لي في أمثلة متعددة:
عدم صحة إعمال أحرف الصحابة على غرار النصوص النبوية؛ لأن الثاني مصدره الوحي، وهو مسدَّد، ومحصَّنٌ من الخطأ، والثاني قد يعتريه ما يعتري البشر من قصور، وإن كانوا – رضي الله عنهم – في المقام الأرفع، والمحل الأسمى لغة وفصاحة وبيانا.
4 - الأثر يحتمل تعديته إلى من ترك النسك المستحب أو ما وقع على صورة النسيان أو الجهل باعتبار أن إهراق الدم هو إكمالٌ للنسك، وهو مشروع لكل حاج مطلقا، ويتأكد عند حصول موجبه، وهو حصول الخلل، والخلل قد يقع فيما رفع الشارع عنه المؤاخذة.
5 - تتأكد في فتوى ابن عباس بإلزام الدم على من أخل بنسك واجب في الحج بالرواية الأخرى عن ابن عمر في فتواه بلزوم الدم على مَن نفر مِنْ منى قبل الزوال.
6 - انعقدت فتاوى أهل العلم على الإلزام بالدم لمن أخل بشيء من نسكه الواجب، من لدن أصحاب رسول الله عليه وسلم إلى علماء الأمصار من التابعين، إلى أئمة المذاهب الأربعة، إلى مدونات أهل الإسلام في قرون متطاولة.
¥