وما على المنازِع إلا أن يتصفَّح في المصنفات والمدونات، من فتاوى التابعين ومن بعدهم، وبهذا نعرف أن طريقة الشيخ عبد العزيز الطريفي في خرم هذا الإجماع بأن من فتاوى عطاء أنه لم يلزم بالدم فيمن ترك بعض الواجبات لا تصح، لأنه يكفي في تحقيق هذا الإجماع أن ننقل عن عطاء إلزامه بالدم في ترك بعض الواجبات، وهذا أشهر من أن يقرر هنا، ثم نحيل ما لم يفت به عطاء بالدم في ترك بعض الواجبات إلى بعض المحال المختلف فيها.
7 - أن المخالف في هذه المسألة متأخر جداً، وفي محل ناءٍ عن معقد الإجماع، فهو الإمام ابن حزم رحمه الله، وهو من أهل القرن الخامس، إلى الإمام الصنعاني، إلى جماعة من المعاصرين.
8 - ما من فقيه إلا وقد رخص في ترك ما هو من الأنساك المستحبة، ومن غير إلزام بالدم، وبهذا لا يكون هناك إجماعٌ في من أخل بشيء من الأنساك المستحبة، وقل مثل ذلك فيمن كان ناسياً أو جاهلاً، ولك أن تقول: وأيضا في بعض الواجبات التي اختلف في عدِّها من الأنساك، ومن ثَّم في لزوم الدم في حصول الإخلال بها، ومثل ذلك أيضاً ما يحصل من جنس الأعذار التي رخص فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلزم فيها دماً.
9 - وبناء على ما سبق، فيكون مستند الحكم بلزوم الدم على من أخل بالنسك الواجب هو ما يلي:
1 - أثران عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، ولا مخالف لهما من الصحابة.
2 - إجماع الأمة العملي على الفتوى بلزوم الدم على من أخل شيئا بنسكه.
3 - قبول الأمة لهذا الحكم من سلفهم إلى خلفهم.
10 - ما فسر به أثر ابن عباس يرجع إلى اعتبارين:
أ - أنه مما لا يقال بالرأي فله حكم الرفع.
ب - أنه مما يدخله الاجتهاد.
وفسر هذا الاجتهاد بأمور:
1 - قياساً على دم المحصر.
[كما هي طريقة د. إبراهيم الصبيحي، وهو قياسٌ مدخول، والنصوص التي ساقها عن الفقهاء:
- إما أنها تفيد عموم الحصر بأي شيء حصل الحصر، وليس المقصود منها عموم ما حصر عنه، فهو عموم في المانع لا في الممنوع منه.
- وإما أنها نصوصٌ تفيد تصور الفقهاء لأحوال حصر الحاج، فإذا حصر عن عرفة تعلق به حكم الحصر الخاص من الهدي، وإذا حصر عن واجب من واجبات الحج، تعلق به مقتضاه وهو لزوم الدم، وإذا حصر عن مستحب لم يلزمه شيء، فهو تصوير لأحوال ما يمكن أن يحصر عنه الحاج، لا حكم الحصر الخاص، كما أنه ليس في النصوص التي ساقها ما يفيد استدلال الفقهاء بآية الحصر على لزوم الدم لمن أخل بالواجب، بل إن جملة ابن قدامة التي ذكر أنه استدل بآية الحصر على وجوب الدم لمن ترك واجبا، قد نص فيها ابن قدامة نفسه أن الحكم كذلك لو كان من غير حصر، مما يؤكد أنه لا أثر للحصر على الحكم إنما هو في حصول صورة الحصر فحسب.]
2 - قياساً على دم المتمتع.
[كما قررها الشيخ المختار الشنقيطي، من جهة أن دم التمتمع والقارن إنما وجبا على الأفاقي الذي ترفه بسقوط أحد السفرين عنه، وكان الأصل أن يهل لكل من حجه وعمرته من الميقات، فهو دمٌ لجبران ترك الواجب الذي سمح به الشارع، وهو قياسٌ مدخولٌ أيضاً من جهة الفرق بين أحكام الدمين فأحدهما دم شكر، والآخر دم جبران، وأحدهما يؤكل منه والآخر لا يؤكل منه .... ]
3 - قياساً على الدم في فدية المحظور.
[وبيانه: أن ابن عباس رضي الله عنهما قاسه على أكمل الثلاثة في فدية الأذى لأنه هو الأصل، وهو الذي يحصل به البراءة.
وهذا في الحقيقة معنىً لا يشفع لتمرير هذا القياس المعين مع ما حصل فيه من هذا الفرق المؤثر، وهو التخيير في فدية الأذى، ولزوم الدم في ترك الواجب، والذي يتعذر معه إجراء هذه العملية القياسية حسب التراتيب الأصولية]
وبما سبق:
فإن المتأمل يجد أن كل هذه القياسات لا تخلو من نظر، وإنما ألهم ابن عباس هذا الحكم، ووقع في قلبه، ووافقته الأمة عليه من بعده لما يلي:
· لمجموع هذه القياسات، بعضها مع بعض، مع أن أفرادها لا تخلو من نظر.
· لمكانة الدم في الحج [في لزومه للمتمتع وللقارن، واستحبابه للمفرد، بل واستحباب تعدده، بل تعداه إلى ما يحصل من مشاركة غير الحاج فيما يشبه هذا النسك، وهو المسمى في الشريعة بالأضحية]
¥