أعتقد أن غارودي قد قبل الإسلام كنظام أخلاقي وروحي، وليس مجموعة من العقائد والأحكام والتعاليم التي على المسلم الإيمان بها والالتزام بممارستها .. ربما يكون غارودي قد أعجب بالحضارة الإسلامية أكثر من الدين التي كانت نتاجًا له".
7 - حدثني بعض مشايخي من أهل مصر ممن كان له صلة بالعلامة المحقق محمد أبو الفضل إبراهيم رحمه الله، قال: قال لي أبو الفضل إبراهيم: "حين كنت أعود من عملي في دار الكتب كان يركب معي في المواصلات جاري في الحارة مغني المونولوج المشهور "شكوكو" .. وكان كل من رآه يسلّم عليه ويحتفي به، ولا يكاد أحد يسلم عليّ أو يعرفني ..
قال: ومرة جاء ساعي البريد يبحث عني ليوصل لي شيئًا معه، فأخذ يدور في الحارة من الصباح إلى قريب الظهر ما عرفني فيها أحد .. حتى دلّه على منزلي صاحب مغسلة الملابس، وضاع كلب "شكوكو" يومًا فخرجت الحارة كلها تبحث عنه"!
قال الشيخ محمد عبد الرحيم بدر الدين في تقديمه لكتاب "ديوان المجموع اللطيف في بني نصيف": "ولقد رأيت بنفسي يوم توفي علم من أعلام الأمة، وجبل من جبال العلم في عصرنا، هو العلامة الدكتور محمد عبد الله دراز .. رأيت نشر نعيّه وخبر وفاته في زاوية متواضعة في ثنايا عمود منزوٍ من صفحة داخلية في بعض الصحف، في حين كانت الصفحة الأولى تختنق بعناوين ضخمة، وصور متعددة، وتعليقات مسهبة حول وفاة راقصة مشهورة .. ".
8 - أَحقٌّ أن السلفية تطامن من العقل، وتُزري بالقدرة، وتحجر على الموهبة؟
وأن الإبداع لا يقاربه قلم الكاتب؛ إلا أن يتمرّد على إسار النص، ويجري في أفانين الغواية، ويكسر حاجز المقدّس ..
آحقٌّ أن السلفية تورث صاحبها ذهبًا فاترًا، وأداة خابية، وروحًا بليدة؟
وأن العبقرية إنما تتنزّي من نفس الإنسان، والوهج إنما يلفح في أحرف هجائه، والمعا ني تأتلق بها روعة تراكيبه؛ حين يوصف بكل وصف إلا أن يكون سلفيًا ..
أَحقٌّ أن السلفية تأسر محطّ النظر فلا يبرح القرطاس الأصفر، وتطمس مجالي البهاء فلا يعود الجمال ينفذ اِلى مسارب الفؤاد، فهي قَدَر المحرومين .. قدر المحرومين من لذاذات العقول، ومدارج الثقافة، ومطارح الجمال؟
وأن كل أحد إلا أن يكون سلفيًا: له من أيامه بهجة المعرفة، وثراء تراث الإنسان، ومفاتن الفكر، ومهاوي الفتون ..
لقد حاولتُ من خلال مشروعي الثقافي –الصغير- أن أفنّد هذا الشغب الصبياني البليد الذي يلصقه أراذل أهل المعرفة بهذه السلفية المباركة، فجعلت قلمي وأيامي –على بساطة تجربتي- وقفًا على هذا المشروع.
أردت أن أثبت أن السلفية تحسن أشياء كثيرة إن هي أرادت، وأنها ليست تطامن من العقل، ولا تورث صاحبها ذهنًا فاترًا، وأنها ليست بقدر المحرومين من لذاذات العقول ومطارح الجمال، وأن الإبداع طوع قلم الكاتب –إن هو استعدّ- دون أن يستطيل على الرّب والدين، ويتهاون بالأصول والمعتقدات ..
فذهبت أنشئ التأصيل المعرفي، أرود الثقافة على اتساع مداها، وأحلّل الفكر في جذوره، وأوظف الكلام من مظانّه العالية، كل أولئك ببيان مشرق وضيء ما استطعت، حاولت أن أنقُض عليهم دعاواهم الواهية، وأدفعَ الفرية التي يصمنا بها سقط أهل الفكر حين يردّدون: أن الخطاب السلفي بات خطابًا متربّصاً، ناقدًا لمنجز الآخرين دون أن ينجز ..
لم أُحبّ أن يذلني أحد –أنا السلفيّ- إذلالاً معرفيًا ..
9 - نصرانيّتان:
أ – في رسالة بعث بها الأمير شكيب أرسلان إلى رشيد رضا: "رجل أرمني من وجوه الأرمن وأكابر علاتهم كان منسوبًا للسلطان عبد الحميد، وبعد سقوطه فرّ إلى أوربة .. واسمه: أنطون بك كوشه جي أو غلو، له تأليف على حادثة الأرمن، ذكر أن أصلها سياسة أجنبية، وبرهن بالوثائق، وهو متمسك بدينه ومطّلع عليه، قال لي منذ أيام: إن عقيدة القرآن بالمسيح هي أقدم ما قيل في المسيح، قلت له: وكيف ذلك؟ قال: لأن القرآن منذ 1300 سنة، والأناجيل الموجودة اليوم ليس فيها على التحقيق ما يتجاوز عمر نسخته الأصلية 800 سنة، فإن الأناجيل كانت نحو 40، فاحترقت كلها بحريق مكتبة الإسكندرية، والباقي منها متأخر تاريخ نسخه عن القرآن بقرون، عدا ذلك عقيدة الإسلام في المسيح مطابقة لعقيدة آريوس تقريبًا، باعتبار بنوة المسيح لله مجازية .. قصدت أن أروي لك هذه الرواية لأنها تتعلق بأبحاث "المنار" .. ".
¥