نصوص الشريعة كلها أدارت الحب والمودة مع الإيمان: (إنما المؤمنون إخوةٌ). (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا). (لا يجد أحدٌ حلاوةَ الإيمان حتى يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله ... ). (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد)، (المؤمن للمؤمن كالبنيان .. ). فالحبُّ في دين الإسلام قاعدته الإيمان بالله. ولن يجد الباحثُ في نصوص الشريعة نصاً يقول: (مثل الناس في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد). بل الموجود فيها فقط: (مثل المؤمنين في توادهم ... ).
والمحبة والمودة مشاعر قلبية، تدور مع ما يسكن القلب ويستقر فيه من المعاني. فمتى استقر في القلب تعظيمُ شيءٍ ومحبته محبةً تامةً، فإنه ينفر مباشرةً مما يناقضه وينافيه. فحبك لأبيك وأمك يجعلك تنفر ممن يشتمهما أو ينالُ منهما. ومحبتك لمالك تجعلك تنفر ممن يتلفه ويتعدى عليه. ومحبتك لولدك تجعلك تنفر وتكره من يسعى في أذيتهم وإفسادهم. فكذلك حبك لله، يجعلك تنفر وتكره من يكفر به، أو يجعل له شريكاً، أو ينسبُ له ما لا يليق بجلاله. وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أن الله تعالى قال: "يشتُمني ابنُ آدمَ، وما ينبغي له أن يشتمني، ويُكذِّبني وما ينبغي له. أما شتمه فقوله: إن لي ولداً. وأما تكذيبه، فقوله: ليس يعيدني".
فالنصراني الذي ينسب لله الولد، هو –في الواقع- شاتمٌ لله. فهل نقول: حتى مع شتمه لله وأذيته له، لن نكرهه حتى يؤذينا و يحاربنا نحن المخلوقين؟!
وأبعدُ من هذا أن يقالَ: نبغضُ شتمَ لله وسبَّه والكفرَ به، لكن لا نبغض الشاتم والكافرَ ولا نكرهُه!
*****
قد يقول قائلٌ هنا: إن هذا النصراني جاهلٌ بدين الإسلام، فهو قد نشأ على شيءٍ يظنه حقاً، فكيف نؤمر ببغضه وكراهيته؟
هذا السؤال يمكن قلبه بالاتجاه الآخر: فالنصراني المحاربُ أيضا، قد نشأ على دين يراه حقاً، وهو يحسب أنه محسنٌ مأجورٌ في حربه لأعداء المسيح. فكيف نؤمر ببغضه وكراهيته؟
على أن هذا السؤال إنما يصدر ممن يظن مخطئاً أن بغض الكافر عقوبةٌ مرتبةٌ على جنايةٍ. والواقع أن بغض الكافر والنفور منه، ليس عقوبةً يختار المؤمن إنزالها بالكافر. بل هو شعورٌ قلبيٌّ، واستجابةٌ فطرية، يفترضُ أن تنشأ تلقائياً متى استقر في القلبِ إيمانٌ صحيحٌ وتعظيم لمقام الله -عز وجل-.
فكما أن المسلم المحافظ المهذَّب الخلوق الذي نشأ في خيرٍ وأدبٍ، يجدُ في نفسه تلقائياً: نفرةً وكرهاً للفاجر العربيد السكير سيء الأخلاق، بقطع النظر عن تربية ذاك السكير وظروف نشأته التي أوصلته لهذه الحال. فكذلك قلب المؤمن المعظم لمقام الله، فإنه يكره ويبغضُ وينفر ممن يكفر بالله، أو ينسب له الولد والشريك، أو ينتهك حقه في الوحدانية، بقطع النظر عن أسباب ذلك الكفرِ وملابساته.
ولا بد من التنبيه هنا إلى أن: هذا الشعور بالكره والبغض والنفور، لا يستلزم التعدي وانتهاك الحقوق. بل لا ينافي مشاعر الشفقة والرحمة والرغبة في الإحسان. فمن الممكن أن تكره السكير العربيد سيء الأخلاق، وتنفر من مجالسته، أو الحديث معه، أو حتى رؤيته. وفي الوقت نفسه تشفق عليه، وتأسى لحاله، وربما تحمل نفسك على ما تكره، فتحادثه وتعظه وترغبه في الخير، علَّ الله ينفعه ويصلح حاله. فإن تغيرت حاله، نشأت في قلبك –تلقائياً- محبته. وإن أبى وعاند، بقي كرهك له كما هو، وربما زادَ.
هذا بالنسبة لمسلمٍ معه أصل الإيمان، لكنه عربيدٌ فاجرٌ سيء الأخلاق لم يحظ بتربيةٍ تهذب سلوكه. وأسوأ منه حالاً من يقارف أكبرَ جنايةٍ في الوجود، وهي الكفر بالله أو برسوله -صلى الله عليه وسلم-. فمثل هذا يفترضُ أن ينفرَ القلبُ السليمُ منه ولا يألفه، إذ (الأرواح جنودٌ مجندةٌ، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-. ومتى لم يكره القلبُ وينفر ممن كفر بالله، دلَّ هذا على مرضه وفساده. فالمؤمن الحقُّ الذي سلم قلبه من الأوضار لا يستطيع -لو أرادَ- منع قلبه من كراهية الكافر بالله والنفرةِ منه. لكن مع ذلك، قد تأخذه الرأفة والشفقة على ذاك الكافر المكروه، فتراه يحسن معاملته، ويترفق به، ويرغبه في دين الحق، عله ينجح في إنقاذه من الكفر. لكن هذا السلوك شيءٌ لا علاقة له بالحب والكره، أو الألفة والنفرة.
¥