فالمقصود من هذا أن كله: أن خصال السوء إذا اتصف بها شخصٌ، فإن القلبَ السليمَ ينفرُ منه. ولا يصلح هنا أن يقال: عليك أن تكره شربَ الخمرة. لكن لا يجوز أن تكره السكير العربيد. عليك أن تكره سوء الخلق، لكن ليس لك أن تكره الشخص سيء الأخلاق. عليك أن تكره الكذب والنفاق. لكن لا يجوز أن تكره الكذابين المنافقين. عليك أن تبغض الكفر. لكن ليس لك أن تكره الكافر! فمثلُ هذه التكلفات والتمحلات لا تستقيم ونصوص الشرعِ الصريحة الجلية، بل لا تتفق مع طباع النفوس السليمة من الدواخل. فمن لا يجد في قلبه كرهاً ونفرةً ممن ينسب لربه الولد، أو يشرك معه غيره في ألوهيته أو ربوبيته. فما قدر الله حق قدره.
ومن لم يدرك غورَ هذه المسألة، فليتأمل كيف حكى الله ردة فعل الجمادات الصماء حين تسمعُ الكفر المجلجل. يقول –تعالى-: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً. لقد جئتم شيئاً إدَّاً، تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرضُ، و تخرُّ الجبال هداً. أن دعو للرحمن ولداً).
فالسماوات كادت تتفطر لما سمعت من ينسبُ لله الولدَ. وكادت الأرض تنشق، وأوشكت الجبال أن تخر. فماذا عن قلب المؤمن حين تطرقه مثلُ هذه المقولة الفاجرة؟ إن لم يبغض ويكره وينفر، فلا ريبَ أنه قلبٌ محجوبٌ عن حقائق الإيمان، بل محروم من حلاوته ولذته التامة: (لا يجدُ أحدٌ حلاوةَ الإيمان حتى يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله .. ).
د. الماجد نقل عن فاضلٍ معروفٍ وصفه بأنه (فيلسوف السلفية). نقل عنه قوله: "لا أعرفُ كيف يطلب إليَّ بعضُهم أن أكره رجلاً نصرانياً يمشي في الشارع. وحتى لو أردتُ أن أكرهه فلن أستطيع".
فليأذن لي د. الماجد أن أنقل له مقولةً لمن هو أفضلُ وأجلُ وأعلم وأرسخ علماً وفهماً. علَّ (فيلسوف السلفية) يفهم من ذلك ما غابَ عنه، فيدرك حقائق الإيمان ومقتضياته. فقد كان الإمامُ أحمدُ بن حنبلٍ إذا نظرَ إلى نصرانيٍّ أغمض عينيه. فلما سئل عن ذلك قال: "لا أقدرُ أنظر إلى من افترى على الله وكذبَ عليه". فليقرأ هذا (فيلسوفُ السلفية)، عله يدرك كيف يستطيع أن يكره نصرانياً يمشي في الشارع.
أما إمامُ الإسلام الآخرُ ابن تيمية، فكان يقول: "ليُعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك. والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك".
أما سيدُ هؤلاء جميعاً، فاروق الأمة عمرُ بن الخطاب –رضي الله عنه-، فقد صحَّ أن رجلاً من أهل الشام قدمَ عليه فسأله عمر: لعلكم تجالسون أهل الشرك؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. قال: إنكم إن جالستموهم أكلتُم وشربتُم معهم، ولن تزالوا بخيرٍ ما لم تفعلوا ذلك.
هكذا فقِهَ هؤلاء وسائر أئمة الإسلام وحي الله وشرعه.
******
النصوص الشرعيةُ والأخبارُ عن أئمة الإسلامِ في تقرير هذا المعنى كثيرةٌ وفيرةٌ. وليس المقام مقام استيفاءٍ. لكنَّ المراد أن من الخطأ أن يظن أحدٌ أن هذا الأصل العظيم مبني على خطأ من ((بعض)) العلماء في فهم آية. بل هو أصلٌ راسخٌ مجمعٌ عليه، ودلائله منثورةٌ مشهورةٌ في نصوص الوحيين.
لكن هذه النصوصُ الواضحةُ الجلية، لن يفيد منها قارئها حتى يأتي البيت من بابه. ومسائل الشريعة لها بابٌ واحدٌ، وهو بابُ التسليم والخضوع للتوجيه الإلهي، بأن يحاول المسلمُ فهم مراد الله من كلامه، كي ينزله على الواقع مهما كان هذا التنزيل ثقيلاً. وإن من أعظم سبل الزلل أن نعكس المسار، فننظر إلى تعقيدات الواقع، ثم ننادي بإعادة قراءة النص القرآني كي نخرج بتفسير يخفُّ علينا ويلائم أهواءنا. سواءٌ في ذلك أهواؤنا القلبية، أو أهواؤنا العقلية. فللعقول أهواؤها كما أن للقلوب أهواءها. وإذا كان هوى القلوب في شهواتها ورغباتها، فإن هوى العقول في تفلتها وتمرُّدها الخفي على الوحي الإلهي.
*****
في سبيل أن نصل لفهمٍ صحيح للمسألة، نحتاج لفتح القلوب والعقول للتوجيهات الربانية، فإذا سمعنا نهياً واضحاً صريحاً عن مودة الكفار أو موالاتهم، فلا نحرف الكلم عن مواضعه ونذهبَ لنقول: المقصود النهي عن محبة ومودة الكفر، وليس الكافر!
لنفتح قلوبنا وعقولنا، ولنقرأ –مثلاً- قول الحكيم العليم الخبير:
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وأبناءكم أولياء، إن استحبوا الكفر على الإيمان. ومن يتولهم منكم فإنه منهم. إن الله لا يهدي القوم الكافرين).
¥