تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إنَّه - الإسلام - لا يقول لليهود: اكفُروا بموسى وغيره من أنبِيائكم وآمِنوا بمحمَّد، ولا يقول للنَّصارى: اكفُروا بنبيِّكم عيسى وآمِنوا بمحمَّد، كلاَّ بل يقول لكلِّ هؤلاء: آمِنوا بمحمَّد كما آمنتم برسُلِكم، بل فوق ذلك هو يقول لهم: مَن كفر بأيِّ رسول من الرُّسل فكأنَّه كفر بِمحمَّد، فلا يعدُّ مسلمًا ولا يدخُل حظيرة الإسلام حتَّى يؤمِن بِجميع الرُّسل كما آمن بمحمَّد.

أجل، لَم يقُل الإسلام يومًا لأتْباعِه إنَّ موسى لم يكُن نبيًّا مرْسلاً، أو عيسى لم يكن رسولاً مقرَّبًا.

ولَم يقل المسلمون: إنَّ موسى قد افترى ولم ينزل الله عليه التوراة.

ولَم يقل المسلمون: إنَّ عيسى قد كذَب ولَم يوحَ إليه الإنجيل.

ولكن قال اليهود والنَّصارى: كذب محمَّد فلم ينزل عليه القرآن.

ولَم يقل المسلمون يومًا لأحدٍ من النَّاس: إنَّ محمَّدًا إلهٌ فاعبدوه وقدِّسوه.

فدعْوة الإسلام إذًا هي دعوة في الغاية من السَّماحة مع الآخر والاعتراف بهويَّته، إنَّها ما أنكرت عليه إيمانه بنبيِّه ولا كتابه المنزل، بل أثبتت ذلك وطلبت منه الإيمان بالنَّبيِّ الجديد والكتاب الأخير، فما عسى أن يكون التَّسامُح والاعتراف بالآخر فوق ذلك؟!

زِد على ذلك أنَّ الرِّسالة وسط في دعوتِها وما تطلبه من أتباعها من الكمال والعدل، بحيث لا حجَّة لأحد في عدم الامتِثال لها، إنَّها تقسم الموجود إلى خالق ومخلوق، ورب ومربوب، والرَّبّ واحد لا شريك له، له جَميع صفات الجمال والجلال والكمال، وكلُّ مَن سواه مَخلوق ضعيف لا يَملك لنفسِه ولا لغيرِه ضرًّا ولا نفعًا، فلا تقْديس في الإسلام لبشَر ما بِحيث تُلْقى عليه صفات الخالق ويَخضع له البشَر كما يخضعون لخالقهم، فما عسى يرْجو إنسانٌ يَحترِم عقلَه من دينٍ من الأدْيان فوق ما يرْجوه من الإسلام، الَّذي ساوى بين جَميع البشَر في المعاملة عند ربِّهم على ما قرَّره القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، والسنَّة المشرفة: ((لا فضل لعربي على عجمي إلاَّ بالتَّقوى)).

إذا كان الأمرُ على ما قد وصفْنا وقد فتح الإسلامُ ذراعيْه للآخر، باعترافه بنبيّه وكتابه، ثمَّ بعظمة منهجِه وشريعته وتعْظيمه كلَّ الرسل وإقراره كلَّ الكتب، ثمَّ وجدْنا بعد ذلك هذا (الآخر) يأْبى إلاَّ عنادًا ويأْبى إلاَّ كفرًا بواحد من الرُّسل، وتكذيبًا بواحد من الكتب، أو يرفع أحدًا من البشَر إلى مقام الخالق ويهزأ بالرَّبّ العظيم فيصفه بصفات المخْلوقين من النقص والعجز، ويُحارب ما أنزله الله لبني الإنسان من النُّور والهداية، أفيكون الإسلام ظالمًا عند إقصائه لهذا (الآخر)؟! ثمَّ هل أقْصى الإسلام (الآخر) أم الآخر هو الَّذي أقصى نفسه بإنكاره ضوءَ الشمس في رابعة النَّهار، وبعناده واستكباره وركوبه الكذِب والشَّطط والغلو والجفاء؟!

ثمَّ إذا كان الأمر كذلِك، فهل من مصلحة هذا (الآخر) غشّه ومخادعته وتَصحيح باطلِه وتلْميع مزيفه، أم مصلحته في إخباره بواقعِه وحاله، وأنَّه متجنٍّ على ربِّه مكذِّب لرسوله هو قبل تكذيبِه لرسول الإسلام؛ لعلَّه أن يفيق إلى نفسِه ويرجع عن غيِّه يومًا ما؟!

أوليْس من الحقّ؛ بل من الواجب أن نقولَ لِلمُجْرِم إذا اقترف جريمةً: أنت مجْرِم؟! أليْس من حقِّنا ومن واجبنا أن نقول للخائن المزوّر: أنت خائن ومزوّر، ولو قلنا له: أنت أمين وصادق، لكنَّا نحن الخونة والمزوِّرين؟!

هذا الذي افترى الكذب على خالقه، وهذا الذي كذَّب أحد رسُل الخالق، ألَم يجرم جريمة شنعاء ويرتكب داهية دهياء؟! أليس من العدْل والإنصاف أن نصِفَه بالوصف الحقيقي الملائِم لفعله المناسب لجرمه؟!

إنَّ الطَّبيب إذا قال للمريض: أنت سليم معافًى ما بك من بأس، مع أنَّه يحمل الأمراض الفتَّاكة التي ستُرْديه بعد مدَّة، أفلا يكون هذا الطَّبيب خائنًا؟!

أفلا يكون مجرمًا؟!

هكذا نحن لو قُلنا لليهود: أنتم لستُم كفَّارًا، أنتم على دين صحيح، أقيموا على ما أنتُم عليه، على ما وجدتُموه في كتُب آبائِكم وإن كانت محرَّفة أو منسوخة، وقولوا: إنَّ عيسى ومحمَّدًا كاذِبان، واتركوا شريعة الله المحْكمة الخالدة وكتابه المهيْمِن .....

وقلنا للنَّصارى: أنتم على صواب ودين صحيح، وأقيموا على ما أنتُم عليه من قولِكم: "اتخذ الله ولدًا"، وعبادتكم ذلك الولد، واتركوا عبادة الخالق العظيم وكذِّبوا بمحمَّد وقولوا عنه: كذَّاب، واتركوا شريعتَه المحْكمة الخالدة وكتابه المهيْمِن ...

لو فعلنا هذا ولم نبيِّن لهؤلاء وهؤلاء حقيقة أمرِهم، أمَا كان فِعلُنا هذا في غاية الخيانة والظلم لهم؛ لأنَّنا أوهمناهم أنَّ الباطل حقّ وأنَّ اللَّيل صبحٌ وأنَّ السّم ترياق؟!

كيف سيكون مصير الباحِثين عن الحقيقة من البشَر لو أنَّ الإسلام يصحِّح جميع المذاهب والأديان ويعترف بها، كيف يلتمسون النور وقد قيل لهم: إنَّ الكلَّ سواء وعلى خير ومصيرهم إلى جنَّة الخلد؟!

فمن رحمة الإسلام بأتْباعه وأعدائه: أنْ أجلى لهم حقيقة مصير كلٍّ منهم، ليسلك كلُّ واحد سبيلَه وهو على علم بمآلِها وعاقبتِها، وليتحمَّل نتيجة ما اختاره لنفسِه يوم لا تَملك نفسٌ لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله.

-------

مقالة لأخيكم نشرتها الألوكة على هذا الرابط

www.alukah.net/articles/1/10320.aspx

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير