تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأنا أرى أنه لو انتزع من هذه المدنية أكثر حسناتها لذهب في ذلك أكثر سيئاتها، إذ كانت الحسنة هي التي تخرج السيئة؛ فالغنى الواسع بإزاء الفقر الأوسع، والرفاهيّة السّرية بإزاء الشيوعية والفوضى وهكذا، ونعيم هذه الحضارة نعيم في أقله وشقاء في أكثره، وهو يفسد من يناله بإضعاف أخلاقه القوية الصالحة، ويفسد من لم ينله بتقوية أخلاقه الضعيفة الفاسدة؛ ذاك تسقط به مؤاتاة الشهوات إياه، وهذا يسفل به امتناعها عليه وهي لغيره معرضة؛ ذاك يفسده ما في نفسه، وهذا يفسده ما في نفسه وما في غيره.

ولا يذهبن عنك أن الحضارة تقرر في جميع الناس هذين الأصلين العظيمين: الحرية والمساواة، فينشأ الناشيء عليهما ويترشح لهما في الحياة، حتى إذا شب وانتهى إلى الواقع وجد تلك الحضارة بعينها هي التي تقتلع الاصلين وترمي بهما في وجهه، فليس في الواقع إلا أشراف ووضعاء، وإلا علية وسفلة، وإلا أفراد معدودون من طبقة يراغمون سائر الناس من العمال والمهّان والمساكين ونحوهم، كأن أساطين المال والسياسة هم وحدهم أصابع الدنيا تأخذ بهم ما هي آخذة، وبذلك ترجع عقيدة المساواة وإنها لعقيدة الظلم، وتعود فكرة الحرية وهي فكرة الإستعباد، فإذا سواد العالم المتحضر هو الناقم على الحضارة المستريب بها، وهو على سحطه ونقمته مسخّر لمعيشته الضيّقة المقسومة بالجرام من أيدي أصحاب القناطير، يعطيهم دمه بخبزه، ويشتري موته بعيشه، وذلك كله مما يجعله متربصا بالفتن، سريعا فيها إذا وقعت، تابعا لكل من يدعوه إليها أو يستجيشه عندها، متوثبا على ما يدري وما لا يدري، كما يقع الآن في أروبا

فالكبير في هذه الحضارة ظالم هو أشبه بمظلوم، والصغير مظلوم هو أشبه بظالم، وكأن الحقيقة نفسها خرجت من موضعها فكل شيء حقيقة وكل شيء زور

والروح الإنسانية متى أصبحت موتورة ساخطة متبرمة بأسباب مختلفة كأسباب هذه المدنية من سياسية واجتماعية ووطنية – لم تكن روح الحياة ولكن روح القتل وما في حكمه، ومن ثم فلا بد في هذه الحضارة من انفجارات حربية مستمرة، ولا بد لها أن تجد من تقتله ومن تظلمه ومن تستعبده؛ وإذا تحاجزت الدول وتتاركت زمنا فإنما يسمن بعضها بعضا في مراعي السلم والعيش وكلّ أمة عينها على شحم الأخرى ...

ولقد كانت الحرب العظمى تنقيحا إلهيا عنيفا لهذه الحضارة الزائفة، فوضع الله يده عليها فمحت أكثر حسناتها ورقائقها وطرفها البديعة، وأميتت طباع الترف لتنبعث طباع القوة، وقرّ في الرجل معنى الرجل وفي المرأة معنى المرأة وكانا قبل ذلك وإن الرجل نصف امرأة وإن المرأة ضعف نفسها .....

فكأن الحرب كانت مصفاة للحضارة ثقوبها الخرائب والخنادق والقبور، ومتى جمعت الأوساخ بعد زمن فالمصفاة باقية (°) ..

لست أنكر أن الحضارة زينة الحياة الدنيا وبهجتها، ولكن آفتها أن غايتها التي تجري إليها غنما هي المتعة واللذة وانتهاب العمر؛ فهي بذلك تؤتي جميع لذات الحياة، لمن أطاق واتسع؛ كما تؤتي جميع مكارهها لمن حرم وقتر عليه؛ وبهذين توجد ألفا من السفلة والحشوة وسقاط الناس إذا هي أوجدت واحدا من أهل الفضل والرحمة والإنسانية، ولا قصد فيها بل هي إسراف من طرفيها لا يألو أن يدفع الناس من حدّ إلى حد إلى غير حد علوا وسفلا؛ فالنزاع بين في المادة والنزاع في العاطفة ذاهبان إلى ملتقى واحد؛ هو سخط الإنسان على الإنسان شخطا شقيا مدنفا؛ إذ لا أشقى في الإجتماع من ساخط على من لا يرضاه، هي حضارة على المجاز إذا توسعنا في العبارة لتعم الناس، فإذا حققنا في صريح هذا المجاز رأينا فيها الذلة والمسكنة والتهلكة بوسائل هي العز والغنى والحياة

.................................................. .................................................. ............

قال المحقق: (°) قلت: يتحدث المؤلف عن أثر الحرب العالمية الأولى سنة 1914 - 1918، وقد جمعت الأوساخ بعدها ولم يمض كبير زمن فكانت الحرب العالمية الثانية سنة 1939 - 1945، ولا تزال المصفاة قائمة ....

ـ[ناصر السبيعي]ــــــــ[10 - 06 - 10, 02:33 م]ـ

عليك رحمة الله يارافعي.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير