البائع في المبيع المضمون، فهذا لون، وبيع ما ليس عنده لون،ورأيت لشيخنا في هذا الحديث فصلاً مفيداً وهذه سياقته.
قال للناس: في هذا الحديث أقوال:
قيل: المراد بذلك أن يبيع السلعة المعينة التي هي مال للغير، فيبيعها ثم يتملكها ويسلمها إلى المشتري، والمعنى: لا تبع ما ليس عندك من الأعيان، ونقل هذا التفسير عن الشافعي، فإنه يجوز السلم الحال، وقد لا يكون عند المسلم إليه ما باعه، فحمله على بيع الأعيان، ليكون بيع ما في الذمة غير داخل تحته، سواء كان حالاً أو مؤجلاً.
وقال آخرون: هذا ضعيف جداً، فإن حكيم بن حزام رضي الله عنه ما كان يبيع شيئاً معيناً هو ملك لغيره، ثم ينطلق فيشتريه منه، ولا كان الذين يأتونه، يقولون نطلب عبد فلان، ولا دار فلان، و إنما الذي يفعله الناس يأتيه الطالب فيقول: أريد طعاماً كذا وكذا، أو ثوباً كذا وكذا أو غير ذلك، فيقول: نعم أعطيكه، فيبيعه منه، ثم يذهب فيحصله من عند غيره، إذا لم يكن عنده، فهذا هو الذي يفعله من يفعله من الناس، ولهذا قال: يأتيني الرجل يطلب مني المبيع ليس عندي. ولم يقل: يطلب مني ماهو مملوك لغيري، فالطالب: طلب الجنس، لم يطلب شيئاً معيناً كما جرت به عادة الطالب لما يؤكل ويلبس، إنما يطلب جنس ذلك الشيء، ليس له غرض في ملك شخص بعينه دون ما سواه مما هو مثله أو خير منه، ولهذا صار الإمام أحمد وطائفة إلى القول الثاني، فقالوا: الحديث على عمومه يقتضي النهي عن بيع ما في الذمة، إذا لم يكن عنده، وهو يتناول النهي عن السلم إذا لم يكن عنده، لكن جاءت الأحاديث بجواز السلم المؤجل، فبقي هذا في السلم الحال.
و القول الثالث وهو أظهر الأقوال، أن الحديث لم يرد به النهي عن السلم المؤجل ولا الحال مطلقاً، وإنما أريد به أن يبيع ما في الذمة مما ليس هو مملوكاً له ولا يقدر على تسليمه، ويربح فيه قبل أن يملكه ويضمنه ويقدر على تسليمه، فهو نهي عن السلم الحال إذا لم يكن عند المستسلف ما باعه، فيلزم ذمته بشيء حال، ويربح فيه، وليس هو قادراً على إعطائه، وإذا ذهب يشتريه فقد يحصل وقد لا يحصل، فهو من نوع الغرر و المخاطرة، وإذا كان السلم حالاً وجب عليه تسليمه في الحال، وليس بقادر على ذلك، ويربح فيه على أن يملكه ويضمنه، وربما أحال على الذي ابتاع منه، فلا يكون قد عمل شيئاً، بل أكل المال بالباطل، وعلى هذا، فإذا كان السلم الحال و المسلم إليه قادراً على الإعطاء، فهو جائز، وهو كما قال الشافعي، إذا جاز المؤجل فالحال أولى بالجواز.
ومما يبين أن هذا مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن السائل إنما سأله عن بيع شيء مطلق في الذمة كما تقدم، لكن إذا لم يجز بيع ذلك فبيع المعين الذي لم يملكه أولى بالمنع، وإذا كان إنما سأله عن بيع شيء في الذمة، فإنما سأله عن بيعه حالاً، فإنه قال: أبيعه ثم أذهب فأبتاعه، فقال له: "لا تبع ما ليس عندك"، فلو كان السلم الحال لا يجوز مطلقاً لقال له ابتداء: لا تبع هذا، سواء كان عنده أو ليس عنده، فإن صاحب هذا القول يقول: بيع ما في الذمة حالاً لا يجوز، ولو كان عنده ما يسلمه، بل إذا كان عنده فإنه لا يبيع إلا معيناً، لا يبيع شيئاً في الذمة، فلما لم ينهه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك مطلقاً بل قال: "لا تبع ما ليس عندك"، علم أنه صلى الله عليه وسلم فرق بين ما هو عنده ويملكه، ويقدر على تسليمه، وما ليس كذلك، وإن كان كلاهما في الذمة، ومن تدبر هذا تبين له أن القول الثالث هو الصواب. اهـ كلام ابن القيم، وله بقية لم أنقلها لأن المقصود قد تبين من كلامه.
فإذا تبين هذا فيكون معنى الحديث: لا تبع ما ليس عندك، غير قوله: لا تبع ما لا تملك، لأن النهي عن بيع شيء ليس عنده أي لا يقدر على تسليمه، ولذلك أجاز الحنابلة صوراً من بيع ما ليس عنده.
منها بيع المغصوب على رجل قادر على انتزاعه من غاصبه،وإن كان ليس عنده.
وأجازوا بيع غير المكيل و الموزون و المذروع إذا باعه مالكه قبل قبضه، أو اشترى المكيل و الموزون جزافاً فباعه قبل قبضه جاز بيعه، مع أنه ليس عنده، ولم يقبضه.
وفي بيع الشيء قبل قبضه خلاف بين أهل العلم:
الأول: مذهب الشافعية وهو رواية عن أحمد، لا يصح بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً سواء أكان منقولاً أم عقاراً، وإن أذن البائع وقبض الثمن، لحديث حكيم بن حزام – رضي الله عنه-: "لا تبع ما ليس عندك".
الثاني: مذهب الحنفية أنه لا يصح بيع المنقول قبل قبضه، لا فرق فيه بين الطعام وغيره من المنقولات، وأما بيع العقا رقبل قبضه فيجوز، والفرق أن المنقول عرضة للهلاك بخلاف العقار.
والقول الثالث: مذهب المالكية لا يجوز بيع الطعام خاصة قبل قبضه، سواء كان الطعام ربوياً أم غير ربوي، وأما غير الطعام فيجوز بيعه قبل قبضه، لحديث ابن عباس: من ابتاع طعاما ً فلا يبعه حتى يقبضه.
ويشترط في هذا الطعام شرطين:
الأول: أن يكون هذا الطعام دخل ملكه عن طريق المعاوضة: أي في مقابلة شيء كالبيع و الإجارة و الصلح أو صداق ونحوها، وأما لو دخل عليه الطعام بهبة أو ميراث مما ليس أخذه بعوض فيجوز بيعه قبل قبضه.
الشرط الثاني: أن يشتريه بكيل أو وزن أو عد أو ذرع، أما لو اشتراه جزافاً فيجوز له أن يبيعه قبل قبضه، والله أعلم.
قال ابن القيم في حاشيته عن السنن: أنتم تجوزون للمغصوب منه أن يبيع المغصوب لمن يقدر على انتزاعه من غاصبيه، و هو بيع ما ليس عنده، ولكن لما كان البائع قادراً على تسليمه بالبيع والمشتري قادراً على تسلمه من الغاصب فكأنه قد باعه ما هو عنده وصار كما لو باعه مالا وهو عند المشتري وتحت يده وليس عند البائع، والعندية هنا ليست عندية الحس والمشاهدة، فإنه يجوز أن يبيعه ما ليس تحت يده و مشاهدته وإنما هي عندية الحكم و التمكين، وهذا واضح ولله الحمد. اهـ كلام ابن القيم.