تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

علمٌ ما نضجَ وما احترق

ـ[أبو عبدالله النجدي]ــــــــ[21 - 06 - 03, 09:46 ص]ـ

يقال ـ والعهدة على الزين ابن نجيم ـ: ((إن العلوم ثلاثة: علم نضج وما احترق ; وهو علم النحو , وعلم الأصول، وعلم لا نضج ولا احترق ; وهو علم البيان والتفسير، وعلم نضج واحترق ; وهو علم الفقه والحديث)) اهـ

كذا قال صاحب " غمز عيون البصائر " الحنفي، كما نجدها في منثور الزركشي الشافعي ......

قلتُ: وهذا ـ أرشدك الله وإياي ـ مفيدٌ أنَّ من تقدمنا من أهل العلم؛ يقرّبون المعاني البعيدة بالأمثال القريبة، والمعاني النظرية بالظواهر الحسية، ومن منّا لا يعرف النضج والاحتراق؟

بل من الذي لا يشهق جنانه، ويشخص إنسانه، ويتصلّب صلبه و بنانه؛ حين يسمع (طاري) الطعام والطبيخ!!

و قد كانَ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يذهب إلى أنه ينبغي أن يكون على المفتين محتسب، قال " يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب!؟ " (عن إعلام الموقعين 4/ 217).

وهذا ـ أسعدك الله ـ لما كانت الأمة تَحكُم وتضبط، ولا تسير سير الهوامي ـ الإبل لا راعيَ لها ـ، حيث كانت فقهاؤها تقرر لزوم مراقبة الفتيا والمفتين، والاحتساب على من تصدى لهذا الشأن، وأن " للسلطان فيهم من النظر ما يوجبه الاحتياط من إنكارٍ وإقرار " (الأحكام السلطانية، لأبي يعلى 36). فكانت تُعنى بدينها، أشد من عنايتنا بدنيانا.

وهذه ـ أعزك الله ـ تهميشات على هذه العبارة (النجيمية)؛ السائرة مسيرَ (البوينج: مما يطير بجناحيه) في رحب الفضاء، فلتقرَّ بها عيناً، ولتشحذ بها ذهناً، فهي وإن كانت ليست من صلب العلم، إلا أنها من بهاره، ولئن لم تكن من متونه، إلا أنها من عيونه ...

ومفهومٌ أنّ العلم والفقه زاد النفوس، كما أن الطعام والشراب زاد الأبدان، فهما متقابلان من هذا الوجه، ولئن كان الطعام عذرٌ في تأخير الصلاة تأخيراً لا يضر، فكذا العلم ((بشرطه)).

فقد [روى ابن أبي شيبة، عن أبي بكر بن أبي موسى، أن أبا موسى أتى عمر بن الخطاب بعد العشاء قال: فقال له عمر بن الخطاب: ما جاء بك؟ قال: جئت أتحدث إليك , قال: هذه الساعة قال: إنه " فقه ", فجلس عمر فتحدثا ليلا طويلاً حسبته قال: ثم إن أبا موسى قال: الصلاة يا أمير المؤمنين؟ قال: أنا في صلاة].

ولندلف إلى مطبخ صاحب " الغمز "، فلربما وقع الطرف على قدورٍ منصوبة، ونارٍ مسعورة، ولكل فنٍّ قِدره. والذي يعنينا الساعةَ قِدرُ (الفقه)، فلأمر ما شبعَ هذا القدرُ طبخاً، وتعاورته الأيدي نصباً ونفخاً، لكن الذي يتبدى لي أنه لم يحترق بعدُ، وأنى له ذلك؟، وقد تفجر لنا عصر الصناعة، ثُمَّةَ عصرُ التقنية؛ بنوازلَ ما خطرت على قلوب أجدادنا القريبين، فضلاً عن سلفنا المتقدمين!

ولعمرُ ربِّنا إن علوم هذه الشريعة الميمونة ما احترقت، وأنى لها الاحتراق، بيد أن المطبخ الفقهي له رجاله وأدواته.

فكما أن للمطبخ الحسِّيّ قدورُه وملاعقه؛ وأطعمته ومقادِرُه، فللفقه ـ أيضاً ـ كتبُه وأقلامُه وأدلته!

وقبيحٌ بالمرءِ أن يجهلَ أدواته، كما أنه لا يحسنُ بالمتفقه أن يجهل معانيه ومصطلحاته، فربما مرّ عليه أثرٌ فهمه على غير مراده، فأورده إيرادَ سعدٍ إبِلَه، كمن قرأ هذه الجملةَ في أحد الأسفار: (وفي الحديث "لا يصلي زانىء ")، فلم يُحِط بها خُبراً وتحيّر، ولو راجع المظانَّ لعلم ولم يحصر، جاءَ في اللسان (وفي الحديث "لا يصلي زانىء" يعني الذي يصعد في الجبل حتى يستتم الصعود، إما لأنه لا يتمكن،أو مما يقع عليه من البهر والنهيج،فيضيق لذلك نفسه، من زنأ في الجبل؛ إذا صعد) اهـ

وكما أن الطباخين و (الأشياف) متفاوتون مهارةً واحترافاً، لا بالشكول والشخوص، وإنما بالدربة ومعاني النفوس، فمنهم من يتعاطى بالخبرة والملكة، ومنهم دون ذلك، فإن المتفقهين كذلك، ما بين راسخ بالملكة والفعل، وبين متدِّربٍ يجيبُ بالقوة القريبة، كانوا في ذلك طرائق قدداً ..

فهذا ماهرٌ يقوم على طبخ الذبائح ذوات العدد، فينضجها ويطيبها للآكلين، وآخر يعجز عن طبخ بيضة، أو يكاد، والله يخلقُ ما يشاءُ ويختار!

وهكذا يعجز " الصغار " من المتفقهة؛ عن المسائل " الكبار "، و " قد جعل الله لكل شيء قَدراً "، لكنه حريٌّ إن صحب الكبار، وتمرَّس أن يمهر ويمرس ...

وكما أن لكل " وجبةٍ " مقاديرُ خاصةٌ، بحيث يوضع لها من الملح كذا، ومن الماء كذا، ومن الأبازير كذا ...

فإن مسائل الفقه لها مقاديرها، فتحكيم العوائد والأعراف ـ مثلاً ـ فيما لا مدخل لها فيه من الفقهيات، كوضع السكر على " الكبسة "، بل أدهى!

فالفقاهةُ ذوقٌ، بحيثُ يوضع كلٌّ في محلّه، وقد انشد في (إعانة الطالبين: 2/ 14)، عند كلامه على تخفيف الصلاة؛ مع مراعاة السنة:

رُبَّ إمامٍ عديمِ ذوقٍ .......... قد أمَّ بالناس وهو مجحف

خالفَ في ذاك قول طه ........... من أمَّ بالناس فليخفف

ولما حكى في (بداية المجتهد: 2/ 124) خلافهم في مسائل البيعتين في بيعة، عقَّب: (وهذه كلها اختلف العلماء فيها لاختلافهم بالأقل والأكثر في وجود علل المنع فيها المنصوص عليها، فمن قويت عنده علة المنع في مسألة منها منعها، ومن لم تقو عنده أجازها، وذلك راجع إلى ذوق المجتهد، لأن هذه المواد يتجاذب القول فيها إلى الضدين على السواء) اهـ

أما في عصرنا هذا فأقول: لو أدركَنَا ابنُ نجيم لقال: إن الفقه لن ينضج البتة، ما دام باب المطبخ مكسوراً، و (أفرانُه) مستباحةُ الحمى لكلِّ من تعلَّم أحرفَ الهجاء الثمانية والعشرين!!!

هذه مسامرةٌ كتبتها، وتردّدتُ في بثها، فمن لم يستسغها فليلفظها معذوراً مشكوراً، و (كأنّك لم تسمع، ولم يقلِ)!

وأستغفر الله من زلة القلم ـــــــــــــ

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير