تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

كما جرت به العادة، ويجرى مجرى بيع الثمرة بعد بُدُوِّ صلاحها، وهذا هو الصحيحُ مِن القولين الذى استقر عليه عمل الأمة، ولا غنى لهم عنه، ولم يأتِ بالمنع منه كتابٌ ولا سنة ولا إجماع، ولا أثر ولا قياس صحيح، وهو مذهب مالك وأهلٍ المدينة، وأحد القولين فى مذهب أحمد، وهو اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية.

والذين قالوا: لا يُباع إلا لُقْطَةً لا ينضبِطُ قولُهم شرعاً ولا عُرفاً ويتعذَّرُ العملُ به غالباً، وإن أمكن، ففى غاية العسر، ويؤدى إلى التنازع والاختلاف الشديد، فإن المشترى يُريد أخذَ الصغار والكِبار، ولا سيما إذا كان صغاره أطيب من كباره والبائع لا يُؤثر ذلك، وليس فى ذلك عرف منضبط، وقد تكون المقثأة كثيرةً، فلا يستوعِبُ المشترى اللُّقطة الظاهرة حتى يحدث فيها لُقطة أخرى، ويختلط المبيع بغيره، ويتعذَّرُ تمييزُه، ويتعذر أو يتعسَّر على صاحب المقثأة أن يُحْضِرَ لها كُلَّ وقت مَن يشترى ما تجدَّد فيها، ويُفرده بعقد، وما كان هكذا، فإن الشريعة، لا تأتى به، فهذا غيرُ مقدورٍ ولا مشروع، ولو أُلزم الناسُ به، لفسدت أموالُهم وتعطلَّت مصالِحُهمْ ثم إنَّه يتضمن التفريقَ بينَ متماثلين مِن كل الوجوه، فإن بُدو الصَّلاحِ فى المقاثىء بمنزلة بُدوِّ الصلاح فى الثمار، وتلاحقُ أجزائها كتلاحُقِ أجزاءِ الثِّمارِ، وجَعْلُ ما لم يُخلق منها تبعاً لما خُلِقَ فى الصورتين واحدٌ، فالتَفريقُ بينهما تفريق بين متماثلين.

ولما رأى هؤلاء ما في بيعها لُقْطَةً لُقْطَةً مِن الفساد والتعذُّرِ قالوا: طريقُ رفع ذلك بأن يبيعَ أصلَها معها، ويقال: إذا كان بيعُها جملةً مفسدة عندكم، وهو بيعٌ معدوم وغرر، فإن هذا لا يرتفعُ ببيع العروقِ التي لا قيمة لها، وإن كان لها قيمة، فيسيرة جداً بالنسبة إلى الثمن المبذول، وليس للمشتري

(5/ 809)

قصدٌ في العروق، ولا يدفع فيها الجملةَ مِن المال، وما الذي حصل ببيعِ العُروق معها مِن المصلحة لهما حتى شرط، وإذا لم يكن بيعُ أصول الثمارِ شرطاً في صِحة بيعِ الثمرة المتلاحقةِ كالتينِ والتُوت وهي مقصودة، فكيف يكونُ بيعُ أصولِ المقاثىء شرطاً في صحة بيعها وهي غيرُ مقصودة، والمقصودُ أن هذا المعدومَ يجوزُ بيعُه تبعاً للموجود، ولا تأثيرَ للمعدُومِ، وهذا كالمنافع المعقودِ عليها في الإِجارة، فإنها معدومة، وهي مورد العقدَ، لأنها لا يُمكِنُ أن تَحْدُثَ دفعةً واحدة، والشَرائعُ مبناها على رعاية مصالح العباد، وعدم الحجر عليهم فيما لا بُدَّ لهم منه، ولا تتمُّ مصالِحُهم في معاشهم إلا به.

فصل

الثالث: {معدوم لا يُدرى يحصُل أو لا يحصُل، ولا ثقة لبائعه بحصوله، بل يكونُ المشتري منه على خطر}

فهذا الذي منع الشارعُ بيعَه لا لِكونه معدوماً، بل لكونه غَرَراً، فمنه صورةُ النهي التي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر رضي الله عنهما، فإن البائعَ إذا باعَ ما ليس في مُلكه، ولا له قُدرة على تسليمه، ليذهب ويحصله، ويسلمه إلى المشتري، كان ذلك شبيهاً بالقمار والمخاطرة مِن غير حاجة بهما إلى هذا العقدِ، ولا تتوقَّفُ مصلحتُهما عليه، وكذلك بيعُ حَبَلِ الحَبَلَةِ- وهو بيعُ حمل ما تحمِلُ ناقتُه-، ولا يختصُّ هذا النهي بحمل الحمل، بل لو باعه ما تحمِلُ ناقتُه أو بقرتُه أو أمتُه، كان مِن بيوع الجاهلية التي يعتادونها.

وقد ظنَّ طائفة أن بيعَ السَّلَمِ مخصوصٌ مِن النهي عن بيع ما ليسَ عنده، وليس هو كما ظنُّوه،

(5/ 810)

فإن السلمَ يرد على أمر مضمون في الذمة، ثابتٍ فيها، مقدورٍ على تسليمه عند محله، ولا غرر في ذلك، ولا خطر، بل هو جعل المال في ذمة المسلَّم إليه، يجب عليه أداؤُه عند محله، فهو يُشبه تأجيلَ الثمن في ذمة المشتري، فهذا شغلٌ لِذمة المشتري بالثمن المضمون، وهذا شغلٌ لذمة البائع بالمبيع المضمون، فهذا لون، وبيعُ ما ليس عنده لونٌ، ورأيتُ لشيخنا في هذا الحديث فصلاً مفيداً وهذه سياقته.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير