[عمل أهل المدينة]
ـ[يوسف الخطيب]ــــــــ[02 - 06 - 07, 03:14 م]ـ
الحلقةالأولى من أمهات مسائل الفقه المالكي وقواعده: عمل أهل المدينة، فقد اعتبره الامام مالك1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - أصلا فقهياً في استدلاله. واحتج به في قضايا كثيرة. واستعمل في نقله مصطلحات مختلفة. لكنه رغم كل هذا لم يرد عنه ما يوضح مدى ما يعتبره لهذا العمل من حجية، أو ما يعين على فهم مراده منه من طريق صحيح.
ولذلك احتدم الجدل حول هذا الاصل قديماً وحديثاً. واختلفت فيه أراء الفقهاء ما بين مؤيد ومعارض، وموافق ومخالف. ليس من أرباب المذاهب الفقهية الأخرى فحسب، بل حتى من بعض المالكية أنفسهم.
ولم يقتصر الجدل حول صحة اعتماده أصلاً لاستنباط الأحكام فقط؛ بل تجاوز ذلك الى الخلاف في مدلوله ومعناه. الشئ الذي كان سبباً في إثراء موضوعه بكثير من أراء الفقهاء والاصوليين.
وقد صور ابو الفضل عياض في ترتيب المدارك مبلغ هذا الخلاف،وتجاوز أصحابه حد الأنصاف الى الخوض في غير موضع النزاع، فقال:"اعلمواـ أكرمكم الله ـ أن جميع أرباب المذاهب الفقهاء والمتكلمين وأصحاب الأثر والنظر إلب واحد على أصحابنا في هذه المسألة.مخطئون لنا فيها بزعمهم، محتجون علينا بما سنح لهم. حتى تجاوز بعضهم حد التعصب والتشنيع الى الطعن في المدينة وعدّ مثالبها. وهم يتكلمون في غير موضع خلاف. فمنهم من لم يتصور المسألة ولا تحقق مذهبنا، فتكلموا فيها على تخمين وحدس. ومنهم من أخذ الكلام فيها ممن لم يحققه عنا".
وقبله رفع أبو الوليد الباجي عقيرته بهذه الشكوى،فقال:قد أكثر أصحاب مالك رحمه الله في ذكر إجماع أهل المدينة،والاحتجاج به،وحمل ذلك بعضهم على غير وجهه فتشنّع به المخالف عليه، وعدّل عما قرره في ذلك المحققون من أصحاب مالك رحمه الله.
فالمنتقدون للمالكية في العمل نظروا إليه من منظور غير المنظور الذي نظر منه المالكية. فاختلط الأمر على هؤلاء،وراحوا يتكلمون عن العمل كما لو أنهم يتكلمون عن الإجماع. أو عن امر ابتدعه مالك وأتباعه. أو أمر يتعلق بالثناء الوارد في شأن المدينة وأهلها.
ومن ثم جاء كلامهم مناقضاً لما قصد المالكية بالعمل. فاختلفت الاراء وتضاربت تبعاً لاختلاف التصور الذي انطلق منه كل فريق.
ولهذا السبب لن تتأتى الكتابة المحررة في موضوع العمل إلا بعد تحقيق محل النزاع، والنظر في القضايا التي كانت وراء كل هذا الخلاف. مما يسمح للباحث بالتمييز بين العمل الذي يعتبره المالكية أصلاً مستقلاً لاستنباط الأحكام. وبين ما قصده المخالفون والمعارضون لهذا الأصل من قضايا لا صلة لها بموضع النزاع. ويتم عرض ذلك وفق العناصر الآتية:
الأول: عده من قبيل الإجماع:
هل عمل أهل المدينة من قبيل الإجماع؟
إن الإجابة على هذا السؤال تسهم في رفع قدر كبير من الالتباس والخفاء اللذين يكتنفان الموضوع. وتبين وجه الصواب في كثير من الاعتراضات الموجهة الى هذا الأصل من زمان الإمام مالك الى يوم الناس هذا.
فقد ادعى كثير من العلماء ان مالكاً يعتبر عمل اهل المدينة إجماعا في مقام إجماع الأمة. وعلى رأس هؤلاء الامام الشافعي وابن حزم والسرخسي والبزدوي والشيرازي والغزالي والفخر الرازي والآمدي والسبكي والزركشي وابو زهرة والشيخ عليش وغيرهم.
وتعلق هؤلاء بأمرين:
الأول:وجود مادة الإجماع في المصطلح الذي كان يستعمله مالك في الموطأ
الثاني:ما ورد في رسالته الى الليث من قوله:فإنما الناس تبع لأهل المدينة. وقوله: فإذا كان الامر بالمدينة ظاهرا معمولاً به لم أر لأحد خلافه.
أما الاول؛فغن مالكاً لم يستعمل كلمة الإجماع مطلقة في الموطأ.
وأما متعلقهم في الرسالة فلا يدل على أنه يرى أن تخصيص الإجماع بهم. أو أن إجماعهم إجماع لا تجوز مخالفته. بل غاية ما يدل عليه كلامه أنه حجة عنده ولا يلزم من ذلك أن يكون إجماعاً بمنزلة إجماع الأمة.
ويُبعد ذلك امتناعه عن إلزام الناس بالموطأ حين عرض عليه أبو جعفر المنصور ذلك.
فالمنتقدون للماكية لم يدركوا سر ما قصد إليه مالك في اعتباره لعمل أهل المدينة. ولا حققوا المسالة من أساسها. ولا فهموا اسرارها ومراميها.
وقصارى ما انتهوا إليه أنهم خلطوا بين عمل أهل المدينة وبين الإجماع.
¥