[عمل أهل المدينة (2)]
ـ[يوسف الخطيب]ــــــــ[03 - 06 - 07, 06:32 م]ـ
ثالثا: عمدة مالك في الاحتجاج بعمل أهل المدينة:
هل الاحتجاج بالعمل عند مالك لأجل الثناء الوارد في المدينة؟
إن الذين استدلوا لحجية عمل أهل المدينة بالأحاديث الواردة في فضل المدينة لم يُصيبوا المعاني التي لاجلها قرر مالك حجية العمل.إذ لم يرد عنهفي مقام الاستدلال لهذا الاصل إشارة الى تلك الأحاديث وما فيها من ثناء على المدينة وأهلها. وإنما قال بحجية العمل مراعاة للاعتبارات الآتية:
الاعتبار الاول: أن القرآن المشتمل على الشرائع، وفقه الغسلام نزل بها.وأهلها هم أول من وُجه غليهم التكليف. ومن خوطبوا بالامر والنهي. وأجابوا داعي الله فيما أمر. وأقاموا عمود الدين.
الثاني: أن أهلها وقفوا على وجوه الادلة من قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،وفعله، وفعل الصحابة في زمانه، ووجوه الترجيح، ولذلك لا يُشك في أن اهل المدينة كانوا أعرف بمواقع الوحي. وأجدر بان يُحافظوا على ما سمعوه وشاهدوه. فهم في مهبط الوحي؛ حيث يكون فيه الضبط أيسر وأكثر. وإذا بعدت الشقة كثر الوهم والخلط.
الثالث: لبث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في المدينة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه. وبها كان يُدير شؤون الدين والدنيا.ويبني قواعد الامة. ويُربي الناس. ويحكم بينهم. فجمع بذلك بين الدين والدنيا عبادة ومعاملة. فاعتبر دينه كما اعتبر عمله.
الرابع: أن حاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مع الصحابة الى أن قُبض على اوجه: إما أن يأمرهم بالأمر فيفعلونه. أو يفعل الأمر فيتبعونه. أو شياهدهم على امر فيقرهم عليه.
فلما كانت لهم هذه المنزلة منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،حتى انقطع التنزيل، وقُبض بينهم.فمحال أن يذهب عليهم _وهم مع هذه الصفة_الحديث. ولا يمكن أن يتصل العمل به من الصحابة الى من بعده على خلافه إلا وقد علموا النسخ فيه.
الخامس: قام في المدينة من بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتبع الناس له من أمته؛ أبو بكر. ثم عمر. ثم عثمان. فنفذوا سنته بعد تحريها والبحث عنها، ومع حداثة العهد بالنبوة والتشريع. فكان عملهم سنة تتبع. وعملاً يُعتمد عليه.
السادس: ثم جاء التابعون من بعدهم، يسلكون تلك السبل، ويتبعون تلك السنن. ناظرين الى الدين بمنظار من سَبَقهم. النص في عقولهم. والعمل شائع بين ظهرانيهم. وآثار الرسول معروفة بينهم، ينقلها الاخلاف عن الأسلاف،والابناء عن الآباء.
السابع: فالمدينة_لما تقدم_قد ورثت علم السنة، وفقه الإسلام في عهد تابعي التابعين؛وهو العهد الذي رآها فيه مالك، فطفق يحدث بعمل اهل المدينة. وما عملهم إلا قبس من عمل نبيهم الذي عاش بينهم. وخالطهم في السراء والضراء. فاتخذه مالك مطية للتشريع. يصل منه الى تقنين الأحكام ما لم يجد نصاً يعتمد عليه، أو وجده ولكنه لم يطمئن الى صحته.
ومن هنا يتبين خطأ من يعترض على الإمام مالكفي اعتبار عمل اهل المدينةحجة من أن الأماكن لا تؤثر في كون الأقوال حجة. وأن البقاع لا تعصم ساكنيها.
فالإمام مالك قرر حجية العمل بناء على ما توافر لأهل المدينة من المزايا لم تتوفر لغيرهم، وليس لكونهم ساكنين في المدينة. حتى قال القرافي في نفائسه بعد كلام قرره: وعلى كل تقدبر، فلا عبرة بالمكان. بل لو خرجوا من هذا المكان الى مكان آخر كان الحكم على حاله. فهذا سر المسألة عند مالك، لا خصوص المكان.
وقال رحمه الله: لم يقل مالك:إن إجماع المدينة حجة، لأجل البقعة.
ويندفع بما سبق ما دكره أبو اسحاق الشيرازي،ونقله الفخر الرازي،والعلامة ابن القيم؛ وهو كيف يكون قول من كان بالمدينة معتبراً حجة ما دام قاطناً بها، فإذا خرج منها لم يكن قوله حجة. ومالك_كما مر_لم يُسند حجة العمل لسكنى المدينة. فلا وجه لهذا الاعتراض.
وعليه، فإن من اتفق له من المزية في نقل الخبر ما اتفق لأهل المدينة يكون هو وأهل المدينة سواء فيما نقلوه عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،وإن لم يكن ساكناً بها.
العنصر الرابع: متى يقول مالك بحجيته:
هل يقول مالك بحجية عمل أهل المدينة في كل زمان؟
لا يقول مالك بحجية عمل أهل المدينة في كل زمان. وإنما يقصد فترة زمنية محددة. توفر فيها لأهل المدينة من أسباب العلم ما لم يتوفر لغيرهم. ثم انتهت تلك الأسباب وزالت، وصاروا كغيرهم من أهل البلدان الأخرى.
وقد حددها العلماء بما يُسمى الأعصار المفضلة، وهي عصر الصحابة، والتابعين، وعصر اتباع التابعين، قال ابن تيمية: والكلام إنما هو في إجماعهم فيي تلك الأعصار المفضلة.
وورد في ايصال السالك: إن عمل مدينة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الذي أجمعوا عليه من أدلة مذهب مالك. والمراد بهم الصحابة والتابعون.
وقال حبيب الله الشنقيطي: عمل أهل المدينة الذي هو حجة عند مالك هو ما كان من الصحابة والتابعين خاصة، لا من دونهم؛ لأن مالكاً كان من تابعي التابعين.فالذي هو حجة عنده هو إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين.
ولعل ماخذ هذا القول رسالة مالك الى الليث بن سعد، التي ذكر فيها الميزات العلمية لأهل المدينة، والمنهج العلمي المتبع عندهم. واقتصر في ذلك على الصحابة والتابعين.
واما فترة أتباع التابعين، فليس فيما نقل عن مالك _فيما يبدو_ما يؤكد صحة احتجاجه بعملهم، وإن نصّ البعض على اعتبار العمل فيها حجة.
والذي يغلب على الظن احتجاجه بعمل أتباع التابعين. ويمكن تقوية هذا الظن بأمرين:
الامر الأول: ما جاء في رسالة الليث: بلغني أنك تُفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا، وببلدنا ال