[عمل أهل المدينة (3)]
ـ[يوسف الخطيب]ــــــــ[27 - 08 - 07, 11:57 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله
هذه الحلقة الثالثة والأخيرة من موضوع عمل أهل المدينة
وسأبين هنا حقيقة عمل أهل المدينة وأقسامه وحجيته:
يظهر من معظم ما كتب حول موضوع عمل أهل المدينة، أنه موضوع شائك، يلفه كثير من الغموض والتردد. وقد أحس بهذا المتقدمون والمتأخرون،
فنجد الإمام الشافعي _على جلالة قدره في العلم والفهم. ومعاصرته لمالك وأخذه عنه_يُسجل هذا الغموض بقوله: وما عرفنا ما تريد بالعمل الى يومنا هذا. وما أرانا نعرفه ما بقينا.
وقرر ذلك غيره مثل البدر الزركشي في البحر المحيط.
فصورة الموضوع إذن لم تكن واضحة لدى كثير ممن كتب فيه. وأكبر دليل على ذلك اختلاف المالكية أنفسهم،فمن قائل:انه من باب الاجماع. وقال آخرون:انه من باب المتواتر.
وقالوا في مراد الإمام مالك منه: أراد المنقولات المستمرة كالآذان والإقامة. وقيل:أراد إجماعأهل المدينة من الصحابة والتابعين. وقيل: محمول على أن روايتهم متقدمة. وقيل: يعم كل ذلك.
وقال الأستاذ الدكتور أحمد نور سيف وهو أحد المعاصرين: إن زهور العمل ومصطلحاته المختلفة في الفقه المدني قبل مالك، ثم إبراز مالك هذا الأصل في قضاياه ومصطلحاته المختلفة تدل على أن الاعتداد بهذا الأصل، والاحتجاج به،كان مأخذاً معتبراً عندهم في الاستدلال من قديم.
لكن حقيقة هذا الاستدلال ودرجته عند المدنيين أو عند مالك ليس من اليسير تحديدها بصورة منضبطة الحدود والمعالم.
وأفضل تحديد لمفهوم عمل أهل المدينة هو للباحث عبد الرحمن الشعلان حيث عرفه بقوله: هو ما اتفق عليه العلماء والفضلاء بالمدينة كلهم أو أكثرهم في زمن مخصوص سواء أكان سنده نقلاً أو اجتهاداً.
أقسام عمل أهل المدينة:
درج كثير من المتقدمين على تقسيم عمل أهل المدينة باعتبار سنده الى قسمين:
الأول:عمل سنده النقل والحكاية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.ويُسمى العمل النقلي.
وهذا القسم يشمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كالآذان وفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كالصاع والمد، وإقراره عليه السلام لما شاهده منهم كتركه أخذ الزكاة من الخضراوات مع علمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بكونها عندهم كثيرة.
الثاني: عمل سنده الاجتهاد والاستدلال. ويُسمى العمل الاجتهادي. وهو ما اتفق عليه أهل المدينة أو أكثرهم من المساءل الاجتهادية.
الاستدلال على حجية هذه الاقسام:
أولاً: حجية العمل النقلي: هذا الضرب من النقل لا ينبغي ان يُختلف في حجيته،بل لم يُخالف في حجيته أحد، لأنه من باب النقل المتواتر. والمتواتر يوجب العلم القطعي، فيجب الأخذ به، فكذلك نقل أهل المدينة. وقد استدل مالك لهذا الضرب من النقل بقوله: انصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من غزوة كذا في نحو كذا وكذا ألفاً من الصحابة. مات بالمدينة منهم عشرة آلاف. وباقيهم تفرق في البلدان. فأيهما أحرى ان يُتبع ويؤخذ بقولهم: من مات عندهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأصحابه الذين ذكرت. أو من مات عندهم واحد أو اثنان من اصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟
وأشار اليه مالك في مناظرته أبو يوسف في الترجيع في الآذان ومقدار الصاع.
وهذا يدل على أن العمل النقلي بمنزلة الأحبار المنقولة بنصها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.ولذلك فإن علماء المدينة إذا استندوا في آرائهم الفقهية الى نقل عملي يعتبرون مستندين الى دليل شرعي صحيح.
واستدل القاضي عبد الوهاب على حجيته بقوله:ودليلنا على كونه حجة اتصال نقله على الشرط المراعى في التواتر من تساوي أطرافه، وامتناع الكذب والتشاعر على ناقليه وهذه صفة ما يحج نقله.
وقال عياض: وقد ساءه ما لحق المالكيين من ضيم تجاه الاحتجاج بهذا الأصل: فهذا النوع من إجماعهم ... حجة يلزم المصير إليه ويُترك ما خالفه من خبر واحد أو قياس. فإن هذا النقل محقق معلومه، موجب للعلم القطعي، فلا يترك لما توجبه غلبة الظنون.
ثانياً: حجية العمل الاجتهادي:
اضطربت الأقوال في ضبط رأي الإمام مالك في العمل الاجتهادي. وعلى أساس من هذه الاختلافات يمكن تقرير ما يأتي
¥