و من الإعتراضات، قول المباركفوري في (التحفة 28/ 147) – و هو يذكر أدلة النافين لسنية جلسة الإستراحة -: " فمنها حديث عكرمة قال:" صليت خلف شيخ بمكة فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة فقلت لابن عباس: إنه أحمق فقال: ثكلتك أمك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم " رواه البخاري ... قيل يستفاد منه ترك الجلسة الاستراحة وإلا لكانت التكبيرات أربعا وعشرين مرة لأنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود وأجيب عنه بأن جلسة الاستراحة جلسة خفيفة جدا ولذلك لم يشرع فيها ذكر فهي ليست بجلسة مستقلة بل هي من جملة النهوض إلى القيام فكيف يستفاد من هذا الحديث ترك جلسة الاستراحة ولو سلم فدلالته على الترك ليس إلا بالإشارة وحديث مالك بن الحويرث يدل على ثبوتها بالعبارة ومن المعلوم أن العبارة مقدمة على الأشارة "اهـ.
قلت: و للرد على هذا الإعتراض:
- أولاً قوله: " جلسة الإستراحة جلسة خفيفة جدًا " مخالف لِما ورد من صفتها؛
ففي حديث مالك بن الحويرث من طريق خالد: " لم ينهض حتى يستوي جالسًا "، و قد وردت هذه الصفة في الجلسة التي بين السجدتين؛ ففي حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه مسلم (498): " وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسا".
و كذلك الحال في حديث أبي حميد من طريق عبد الحميد، فإنه ذكرها في الصفة كما ذكر الجلسة التي بين السجدتين، قال: " ثم هوى إلى الأرض ساجدا ثم قال الله أكبر ثم تجافى عضديه عن إبطيه وفتح أصابع رجليه ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها ثم اعتدل حتى يرجع كل عظم إلى موضعه معتدلا، ثم هوى ساجدا ثم قال الله أكبر ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه (معتدلاً) ثم نهض ... " رواه ابن خزيمة في صحيحه (587).و ما بين القوسين لابن حبان في صحيحه (1876).
و حسب ذينك الحديثين فإنه يصير لكل ركعة سجدتان و جلستان. و لا بد إذًا – و الحال كذلك - أن يكون للجلسة الثانية ما للجلسة الأولى من الأذكار ... و هذا يكفي لمن أعطى النظر حقه لبيان ضعف تينك الروايتين.
قارن هذا الحديث بما مرّ من حديث البراء رضي الله عنه: " رمقتُ محمدًا صلى الله عليه و سلم في صلاته، فوجدته قيامه، و ركعته، و اعتداله بعد الركوع، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته بين التسليم و الإنصراف، قريبًا من السّواء."
فهل تجد لتلك الجلسة مكانًا؟؟؟
- و أمّا قوله رحمه الله: " فهي ليست بجلسة مستقلة بل هي من جملة النهوض إلى القيام " كلامه هذا يعني أنّ الجلسة ليست من سنن الصلاة و لا من هيئتها، و إنما هي وسيلة للإستعانة بها على النهوض. يأتي بها مَن يحتاج إليها لضعفٍ أو مرضٍ أو عجز، لتساعده على القيام. و هذا هو عين ما نقول به ...
و قال الحافظ في (الدراية1/ 147) ردًّا على من تأوّل حديث مالك بحال الكبر: " تأويل يحتاج إلى دليل فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث لما أراد أن يفارقه: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". ولم يفصل له فالحديث حجة في الإقتداء به في ذلك "
و الجواب: أنّا بينا فيما سبق بالدليل صحة ذلك التأويل.
و أمّا قوله صلى الله عليه و سلم: " صلوا كما رأيتموني أصلي "، فهذا الحرف إنما رواه أيوب السختياني، و قد ذكر صفة صلاة مالك – و هي التي أمر بالتأسي بها - و ليس فيها جلسة الإستراحة، و إنما أضافها إلى صلاة عمرو بن سلِمة ... و قد مرّ فتذكّره.
هذا، و قد انتقد الشيخ الألباني رحمه الله و طيب ثراه، قول ابن القيّم رحمه الله: " و لو كان هديه صلى الله عليه و سلم فعلها دائمًا لذكرها كل واصف "
قال في (تمام المنة ص212): هذا الكلام غريب جدًا من مثل هذا الإمام، فإن لازمه التهوين من شأن السنن كلها، لأنه ليس فيها سنة يمكن أن يقال:" اتفق على ذكرها كل واصف لصلاته".اهـ
قلت: و العجيب، أن الشيخ الألباني رحمه الله فعل ما استغربه من ابن القيم؛ فقال في
(صفة الصلاة ص179) – التعليق 7 - "و إنما قلنا (أحيانًا) لأن الصحابة الذين رَوَوْا الوتر، لم يذكروا القنوت فيه، فلو كان صلىالله عليه وسلم يفعله دائمًا لنقلوه جميعًا عنه".
مع أنّ الوتر أخفى من جلسة الإستراحة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه و سلم كان من عادته صلاته في البيت. لكن أن يجلس النبي صلى الله عليه و سلم في وتر من كل صلاة، في كل نافلة و فريضة، و يخفى ذلك عن أصحابه من المهاجرين و الأنصار رضي الله عنهم الذين كانوا يلونه في الصف، و يطلع عليه شاب من الأعراب الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم و مكثوا معه بضعة أيام. فهذا هو الأمر الذي ينبغي أن نستغربه.
و أغرب منه قول مَن قال: أنّ الأحاديث التي ليس فيها جلسة الإستراحة إنما هي لبيان الجواز، أي جواز ترك الجلسة، و كأنه جعل الصلاة التي كان النبي صلى الله عليه و سلم يصليها حتى فارق الدنيا، و حفظها عنه أصحابه، لبيان الجواز. و جعل تلك الرواية الفردة المنكرة المخالفة هي الأصل ... بل هي الفيصل بين السنة و البدعة، و الفاروق بين المتبع للسلف و المخالف.
و خلاصة القول:
لقد تبيّن في الحديث الصحيح الصريح أنّ الصلاة التي لم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يصليها حتى فارق الدنيا هي صلاةٌ خلوٌ من جلسة الإستراحة. فمن أراد أن يلقى الله على ما لقيه نبيّه فليقتدِ به. و من أراد أن ينتسب للسلف، فهؤلاء هم الصحابة و التابعون و جمهور الأئمة و الصالحون يرفعون من السجدة الأخيرة في كل وتر من الصلاة فيقومون و لا يجلسون.
¥