كما حدث مع العرب في جاهليتهم قبل الإسلام حينما كانوا ينسئون الشهور ...
ولهذه الحكمة قال النبي صلى الله عليه وسلم (نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ... )، فخاصية
هذه الأمة في أنها لا تستعمل الحساب في عد الشهور، بل تطبق ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم
من تحري الهلال ورؤيته والاعتماد على الرؤية البصرية الشرعية في أداء العبادات.
فمن أراد للحساب أن تكن له الكلمة والمعيار في الرؤية البصرية الشرعية فقد شابه الأمم السابقة
وفارق سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
الرابعة: أن في اطراح الحساب تعظيم لجناب الشرع على حساب العقل، فالشريعة جاءت بالتيسير
والتسهيل، وإن كان فيه مخالفة لعقول الناس، لأن الشريعة تراعي مصالح المجموع لا مصالح
البعض والأفراد، فلو كان في الأمة حاسبون يثقون في الحساب الفلكي فلا يمكن أن يكون الحكم
صالحا لهم فقط، بل يجب أن يكون صالحا للمجموع، ومجموع الأمة بل الخلق ليسوا على علم
بالحساب، بل قصارى ما يستطيعون هو تحري الرؤية البصرية العادية، فمن تمسك بهذا الذي
جاءت به الشريعة وترك اعتماد الحساب فقد فهم مراد الشرع ومقصوده، وكان معظما لأحكام
الشريعة على حساب ما يقتضيه العقل وتنادي عليه العلوم التجريبية ... وكم من مسألة يخالف
الشرع فيها العلوم التجريبية وعرف الناس وعاداتهم وما اعتادته وسلمت به عقولهم اختبارا
وامتحانا لهم ..
وهذه صلاة الاستسقاء يصليها المسلمون دهرا بعد دهر مع أن خبراء الأرصاد مجمعون على أن
الأمطار ظواهر طبيعية مطردة لا دخل للبشر أو لأحد في تغيير قوانينها.
وهذه صلاة الكسوف يصليها المسلمون وجلا وخوفا من قيوم الأرض والسماء مع أن ظاهرة
الكسوف عند الفلكيين ظاهرة طبيعية لا تستدعي أي خوف أو رعب!!!
فكذلك الرؤية البصرية التي كلف بها الناس ... تخالف ما عليه العلوم الفلكية من أن الهلال قد لا يولد
مثلا ومع ذلك يتراءاه الناس، وقد تأتي ليلة الثلاثين ولا يولد الهلال ومع ذلك يؤمر الناس بتحري
رؤيته ولما يولد بعد، وكل هذا إذعان لفريضة الشرع وتطبيق لأحكامه على حساب مقتضيات
العقل والهوى، وكفى به إيمانا وتسليما.
أما من يقدم العقل والعلم على أوامر الشرع زاعما أن الشرع لا يتعارض مع العلم فقد اتهم الشرع
بالقصور، بل ربما طال اتهامه لربه بنقص العلم .. أفلا يعلم رب الأرض والسماء والمشرع الذي
له الخلق والأمر أن تلك الحسابات عند القوم ستخالف ما عليه عامة الناس؟؟؟
وهاهي شرائع الإسلام وردت بطرائق وكيفيات معينة لا يستطيع أحد أن يغير منها شيئا بما يوافق
العلم العصري ... فلا الكعبة خلعت من مكانها وطيف بها الأرض تسهيلا للناس أداء مناسكهم ..
ولا الطهارة استعيض عنها بالأشعات المطهرة القاتلة للجراثيم عن الماء الذي فرض في القرآن
والسنة .. و ما زال مناط العبادات هو ما حدده الشرع لا ما حدده الناس، حتى التقاويم ومواقيت
الصلاة ليست هي مناط العبادات بإجماع المسلمين، فوقت الظهر كذا ليس لأنه المذكور في تقويم
أمر القرى مثلا، بل وقته هو ماحدده الشرع وهو زوال الشمس ... وإنما استؤنس بتلك المواقيت
الحسابية، فلو أصاب الدنيا غمام أظلمت له الدنيا وتحرينا وقت الظهر (مع وجود التقويم) وكان
مخالفا لما عليه التقويم فلا حرج على المكلف في نظر الشريعة حتى وإن أخطأ اجتهاده، وهذا
يدل على مناطات العبادات هي التي حددت في الشريعة المطهرة.
الخامسة: أن في ترك الاعتماد على الحساب تمييز لأهل السنة المعتصمين بما كان عليه النبي
صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة، ذلك أن الاعتماد على الحساب صار سمة المبتدعة منذ الأزل
أمثال الروافض والإسماعيلية وأضرابهم، وهؤلاء هم الذين أعلوا علم الحساب الفلكي على قواعد
الشرع وجعلوا له الكلمة النافذة، وخالفهم علماء السنة على مر الأزمنة، ووجدوا معارضات كثيرة
من تلك الطوائف، فهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه .. ولا تزال تجد المنبهر بالحساب
الفلكي في قلبه حسيكة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأمره، فهو على استعداد لهدم النظام القضائي
ونظام الشهادات في الإسلام لأجل سواد عيون الحساب الفلكي المزعوم يقينيته وفي هذا ما فيه من
زعزعة لقواعد الشريعة وتقويض لأركانها وثوابتها ...
يتبع ...
¥