الثاني: وقد فهم البعض أن المفتخر به هو عدم الكتابة وعدم الحساب مطلقا، وليس كذلك، فالحديث له سياق، وسياقه في بيان ما يعتمد عليه في بدء الصيام، فلا يجوز تأويل المعنى الخاص بالفهم العام، فالمقصود أن هذه الأمة أمة لا تكتب ولا تحسب في الصيام، وهذا يفيد التيسير والسهولة،وهو المفتخر به هنا، وهو دائم قطعا لأنه من كليات الشريعة أعني التيسير والتسهيل، فالحديث أقر بالكتابة، وأقر بالحساب ولكن لم يعتمدهما معيارا في بدء الصوم.
الثالث: وعلى هذا المعنى نفهم منعى كلمة أمية، فأمية ليس معناها من الأمي أي الجاهل بالقراءة والكتابة، لأمور:
الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ في الحديث (لا نحسب .. ) والجهل بالحساب لا يكون أمية بحال ...
الثاني: أن الحديث سياقه يقتضي الافتخار، والأمية بمعنى الجهل يقتضي التعيير، فلا يناسب تأويل ما يقتضي الافتخار بما يقتضي التعيير تنزيها لكلامه صلى الله عليه وسلم عن هذا العي.
الثالث: أن نصوص الشريعة الأخرى جاءت بالحض على تعلم الكتاب والحساب، مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل فداء بعض اسارى بدر أن يعلم صبيان المسلمين الكتابة، ومثل ما ورد في الأحاديث الأمرة بكتابة السنة مثل قوله لأبي شاة: أكتبوا لأبي شاة.
ومن ذلك الحض على تعلم الحساب للفرائض وهذا مما لا ينكره إلا مكابر ... فكل هذا ينادي على معنى الأمية (الجهل بالقراءة) بالبطلان، لأنه إذا كان معنى الحديث يفيد الافتخار بالأمية لتناقض مع النصوص التي تحض على تعلم الكتابة والحساب، وفضل الكتابة معلوم من دين الإسلام بالاضطرار.
فإذا كان ذلك كذلك فما التأويل الصحيح لقوله: أمية؟ فالجواب: أن المعنى الصحيح الذي لا يصح غيره أن معنى الأمية هنا أي الرائدة القائدة، من الأم بمعنى الرأس والمقدمة ومنه أم الكتاب وأم الشيء أصله، ولذلك نسب الجاهل بالكتابة والقراءة إلى أمه أي لأنه ولد منها ولم يتعلم، ولكن الأمية هنا بمعنى الأمة الرئيسة القائدة، مثل قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) أي القائد المقدم الرئيس ...
وبهذا المعنى يتواءم الافتخار المفهوم من سياق الحديث مع المعنى المذكور. وبهذا أيضا يبطل التأويل القائل أن الحديث يتحدث عن الفترة ا لأولى التي لم تنتشر فيها العلوم ولم تتقدم فيها الأمة ..
واعلم أيها السني أن هذا الحديث أقض مضاجع الفلكيين وأنصارهم، فلم يغمض لهم جفن ولم تهدأ لهم عين، وطفقوا يكرون على هذا الحديث بالإيرادات والتشغيبات ليبطلوا معناه ويفسدوا فحواه ولكن تأويلاتهم الفاسدة نادت عليهم بالخسران وحارت عليهم بالبطلان.
الرابعة: أن المقصود بالأمية في الحديث ليس الوصف ولكن المقصود هو الاسم، فليس معنى الأمية (عدم الكتابة والحساب) هو المأخوذ في اللفظ، ولكن المأخوذ في اللفظ الاسمية، وبهذا يكون المعنى: نحن أمية سميت بالأمية، أي لأن غالب أهلها لا يكتبون و لايحسبون في عد الأهلة، ولو كان المراد الوصف لكان مخالفا للواقع، لأن الأمة بأسرها لم تكن تكن أمية (أي كل أفرادها) في عصر من العصور .. وهذا واضح لا يحتاج إلى تقرير.
الخامسة: وعلى التنزل بأن معنى الأمية في قوله صلى الله عليه وسلم (نحن أمة أمية .. أي من الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب) فما زال في الحديث دلالة على النهي عن الحساب في عد الأهلة لأن قوله صلى الله عليه وسلم (لا نحسب .. ) وصف لهذه الأمة الأمية، فمن قال إن هذا الوصف حال كونها كذلك، وأما إذا لم تكن أمية بل كان فيها من يكتب ويحسب ارتفع الحكم لارتفاع علته، وهذا قول باطل لوجوه:
الأول: أن تعليل النهي عن الحساب بكون الأمة أمية غير صحيح، لأنه تعليل بما لا يصلح أن يكون معنى يمكن التعليل به، فكون الأمة أمية وإن لم يكن وصفا لازما سرمدا (إذا أخذنا معنى الأمية الأخير أي التي لا تكتب ولا تحسب) إلا أن المأخوذ في الحديث هو الاسم وليس الوصف، كما تقدم، وما كان كذلك لا يصلح التعليل عليه لأن العلة يجب أن تكون وصفا مؤثرا ظاهر مطردا ...
¥