الثاني الجهل بقدرة القادر وتعجيزها فالذي جعل دعاء إبراهيم عليه السلام سببا لإحياء الطيور، وجعل تعجب عزير سببا لموته وموت حماره ثم أحياهما الله بعد مائة سنة قادر على أن يجعل رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام سببا لرؤيته في اليقظة
ثم قال ابن أبي جمرة: وقد ذكر السلف والخلف وهلم جرا عن جماعة ممن كانوا رأوه صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا ممن يصدقون بهذا الحديث فرأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها ونص لهم على الوجوه التي يكون فرجها فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص
قال والمنكر لهذا إما أن يصدق بكرامات الأولياء أو يكذب بها فإن كان ممن يكذب بها سقط البحث معه، وإن كان ممن يصدق بها فهذه من هذا القبيل لأن الأولياء يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء عديدة فلا ينكرها ـ أي رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة ـ مع التصديق بذلك
ثم ذكر السيوطي حكايات كثيرة عمن وقع لهم ذلك (بهجة النفوس 4/ 237، 238، تنوير الحلك 4: 11)
نخلص مما سبق أن من أدلة جواز رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة
1ـ عموم لفظ الحديث، 2ـ صلاحية القدرة، 3ـ كونه من كرامات الأولياء والكرامة أصلا شيء خارق للعادة فلا ينكر لكونه على خلاف العادة، 4 ـ ثبوت ذلك لكثير من الأولياء والصالحين كما نقل السيوطي وغيره ذلك عنهم، 5 ـ استدل اليافعي بكونه صلى الله عليه وسلم حيا في قبره وكذلك الأنبياء، 6 ـ وبرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لموسى قائما يصلي في قبره ليلة الإسراء، 7 ـ واجتماعه صلى الله عليه وسلم بالأنبياء وذلك يقظة لأن الإسراء كان يقظة وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم وكل ما جاز للأنبياء معجزة جاز للأولياء كرامة بشرط عدم التحدي (تنوير الحلك 21)
قلت: وإذا ثبت سماع سعيد بن المسيب الأذان من القبر الشريف " أيام الحرة " فقد أدرك حياته صلى الله عليه وسلم بحاسة السمع فلا يبعد أن يدرك غيره هذه الحياة بغير ذلك إذ لا فرق بين السمع وبين غيره مما يدرك به الإنسان
ونلحظ من كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله أنه لم ينف وقوع هذا الأمر وإنما استشكل فيه أمران الأول هل يترتب على ذلك كون هؤلاء صحابة وبقاء الصحبة
وقد رد السيوطي فقال ليس ذلك بلازم إن قلنا إن المرئي المثال فواضح لأن الصحبة إنما تثبت برؤية ذاته الشريفة، وإن قلنا إن المرئي الذات فشرط الصحبة أن يراه وهو في عالم الملك وهذه الرؤية لا تثبت صحبة لأنها في عالم الملكوت
أما الاستشكال الثاني الذي ذكره الحافظ ابن حجر فقال: ويعكر عليه أن جمعا كثيرا رأوه في المنام ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة وخبر الصادق لا يتخلف ثم قال وقد تفطن ابن أبي جمرة لهذا فأحال بما قال إلى كرامات الأولياء فإن يكن كذلك تعين العدول عن العموم في كل راء (فتح الباري 12/ 402)
وهنا اعترض الحافظ على تعميم لفظ الحديث ولم يعترض على ثبوت ذلك كرامة للأولياء أو غير ذلك ولعل ما يصلح في الجواب عن ذلك أيضا قول السيوطي معقبا على قول ابن أبي جمرة السابق " إن ذلك " أي وقوع الرؤية في اليقظة وعدا على رؤياه في المنام " عام وليس بخاص بمن فيه الأهلية قال السيوطي وقوع الرؤية الموعود بها في اليقظة ولو مرة واحدة تحقيقا لوعده الشريف الذي لا يتخلف وأكثر ما يقع ذلك للعامة قبيل الموت عند الاحتضار فلا تخرج روحه من جسده حتى يراه وفاء بوعده وأما غيرهم فيحصل لهم الرؤية في طول حياتهم إما قليلا وإما كثيرا بحسب اجتهادهم ومحافظتهم على السنة والإخلال بالسنة مانع كبير (تنوير الحلك 11، 12)
وقد نقل السيوطي في رسالته هذه أقوالا عن الغزالي، وعن ابن العربي المالكي، وعن عز الدين بن عبد السلام، وعن ابن الحاج في المدخل يثبتون فيها ذلك ولا ينكرونه
وممن يستدل بكلامه على أنه يثبت ذلك القرطبي حيث نقل في التذكرة عن بعض شيوخه قال الموت ليس بعدم محض وإنما هو انتقال من حال إلى حال ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين وهذه صفة الأحياء في الدنيا وإذا كان هذا في الأحياء فالأنبياء أحق بذلك وأولى وقد صح أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء وأنه صلى الله عليه وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس، وفي السماء ورأى موسى قائما يصلي في قبره، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يرد السلام على كل من يسلم عليه إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أنهم غيبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن كانوا موجودين أحياء وذلك كالحال في الملائكة فإنهم موجودون ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله بكرامته (التذكرة 191، تنوير الحلك 44، 45)
كيف وبم تكون هذه الرؤية؟
قال السيوطي أكثر ما تقع رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليقظة بالقلب ثم يترقى إلى أن يرى بالبصر لكن ليست الرؤية البصرية كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض .. ثم عبر عنها بأنها أمر وجداني لا تدرك حقيقته إلا لمن باشره (المصدر السابق 37، 38) وينظر أيضا شرح المواهب اللدنية 7/ 278
أما استدلال الأخ سرمد المغربي جزاه الله خيرا بأحوال الصحابة رضوان الله عليهم في أمور حدثت لهم فقد يقال أيضا ولم ينقل عن هؤلاء أنهم رأوه مناما أفهذا يصلح أن يكون دليلا على نفي وقوعه لغيرهم رضي الله عنهم جميعا
¥