وقد أخذ السلف أهل السنة بظاهر الحديث وقالوا: إن لله تعالى أصابع حقيقة نثبتها له كما أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من كون قلوب بني آدم بين إصبعين منها أن تكون مماسة لها حتى يقال: إن الحديث موهم للحلول فيجب صرفه عن ظاهره. فهذا السحاب مسخر بين السماء والأرض وهو لا يمس السماء ولا الأرض. ويقال: بدر بين مكة والمدينة مع تباعد ما بينها وبينهما، فقلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن حقيقة ولا يلزم من ذلك مماسة ولا حلول.
المثال الثالث: "إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن".
والجواب: أن هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الإيمان يمان، والحكمة يمانية، وأجد نفس ربكم من قبل اليمن". قال في مجمع الزوائد "رجاله رجال الصحيح غير شبيب وهو ثقة". قلت: وكذا قال في التقريب عن شبيب ثقة من الثالثة، وقد روى البخاري نحوه في التاريخ الكبير.
وهذا الحديث على ظاهره والنفس فيه اسم مصدر نفس ينفس تنفسياً، مثل فرج يفرج تفريجاً وفرجاً، هكذا قال أهل اللغة كما في النهاية والقاموس ومقاييس اللغة. قال في مقاييس اللغة: النفس كل شيء يفرج به عن مكروب. فيكون معنى الحديث: أن تنفيس الله – تعالى – عن المؤمنين يكون من أهل اليمن.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: "وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الردة، وفتحوا الأمصار، فبهم نفس الرحمن عن المؤمنين الكربات". أهـ. ص398جـ6 مجموع فتاوى شيخ الإسلام لابن قاسم.
المثال الرابع: قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ).
والجواب: أن لأهل السنة في تفسيرها قولين:
أحدهما: أنها بمعنى ارتفع إلى السماء، وهو الذي رجحه ابن جرير، قال في تفسيره بعد أن ذكر الخلاف: "وأولى المعاني بقول الله – جل ثناؤه -: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُن). علا عليهن وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سموات". أهـ. وذكره البغوي في تفسيره: قول ابن عباس وأكثر مفسري السلف. وذلك تمسكاً بظاهر لفظ (اسْتَوَى). وتفويضاً لعلم كيفية هذا الارتفاع إلى الله – عز وجل.
القول الثاني: إن الاستواء هنا بمعنى القصد التام؛ وإلى هذا القول ذهب ابن كثير في تفسير سورة البقرة، والبغوي في تفسير سورة فصلت. قال ابن كثير: "أي قصد إلى السماء، والاستواء هاهنا ضمن معنى القصد والإقبال، لأنه عدي بإلى". [فائدة من تعليقات الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله: وهذا كأنه أوجه حتى يظهر الفرق بين استوى إلى السماء واستوى على العرش]
وقال البغوي: "أي عمد إلى خلق السماء".
وهذا القول ليس صرفاً للكلام عن ظاهره، وذلك لأن الفعل (اسْتَوَى) اقترن بحرف يدل على الغاية والانتهاء. فانتقل إلى معنى يناسب الحرف المقترن به، ألا ترى إلى قوله – تعالى – (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً). حيث كان معناها يروى بها عباد الله لأن الفعل (يَشْرَبُ) اقترن بالباء فانتقل إلى معنى يناسبها وهو يروى، فالفعل يضمن معنى يناسب معنى الحرف المتعلق به ليلتئم الكلام.
فوائد من تعليقات الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله:
[أهل التأويل يتتبعون الشبه والمتشابه]
اهل التأويل يتتبعون الشبه بل يتتبعون المتشابه من كلام الله وكلام رسوله وكلام العلماء, كثير من الكلام تجد لهم فيه شبهة,
[ما ادعوه على الإمام أحمد قسمان]
وهم ينسبون للإمام أحمد وغيره أنه تأول بعض النصوص وإذا تأول بعض النصوص جاز لنا أن نتأول ما سواها, والشيخ أجاب بما أجاب به ابن تيمية رحمه الله, فهذا الجواب مستمد من كلام شيخ الإسلام رحمه الله, فما ادعوه على الإمام أحمد:
1/ منه ما لم يصح,
2/ ومنه مالا يصح أن يسمى تأويلا, لأن التأويل الصحيح هو صرف الكلام عن ظاهره إلى غيره بدليل, فإذا كان التأويل مبنيا على حجة لم يكن مذموما ولا ممنوعا, كحمل العام على الخاص والمطلق على المقيد,
[الدليل الذي يصرف به الظاهر قد يكون متصلا]
قد يكون الدليل كما قال الشيخ قد يكون متصل في نفس الكلام,
[مثاله]
مثل ما أوضح في الأثر الحجر الأسود يمين الله,
[مثال آخر على الدليل المتصل ذكره شيخ الإسلام في التدمرية]
وذكر ابن تيمية حديثا آخر في التدمرية وهو قوله في الحديث الصحيح أن الله يقول يوم القيامة (عبدي مرضت فلم تعدني عبدي جعت فلن تطعمني)
يقول بعض الغالطين إن هذا الحديث يجب تأويله لأن الله يمتنع أن يحتاج إلى الإطعام ويمتنع أن يمرض,
فالحديث لابد من تأويله, فظاهر الحديث معنى باطل,
[جواب شيخ الإسلام عن قول هؤلاء الغالطين]
أجاب شيخ الإسلام عن هذا بأنه غير صحيح, لأن الحديث ليس هكذا مبتور, الحديث مفسر واضح ما فيه أي إشكال,
فإن الحديث فيه (عبدي مرضت فلم تعدني فيقول كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول الله مرض عبدي فلان فلو عدته لوجدتني عنده) فجعل مرض العبد مرض لله تعظيما لشأن ذلك العبد وتأكيدا لحقه وعيادته,
وهكذا الثاني (عبدي جعت فلم تطعمني فيقول كيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول بل جاع عبدي فلان فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي) الحديث,
يقول الشيخ فلم يبق في الحديث ما يحتاج إلى تأويل, بل الحديث مفسر واضح, ومن زعم أن ظاهر الحديث أن الله يجوع ويمرض فهو مبطل, كمن قال إن ظاهر قوله تعالى (فويل للمصلين) وعيد للمصلين, يقول هذه الآية ظاهرها تهديد ووعيد للمصلين, والآية ليست هكذا, الآية موصولة (الذين هم عن صلاتهم ساهون) فصل الآية وترتفع الشبهة ويزول الإشكال.
¥