أقول: لي على هذا الكلام عدة ملحوظات:
الأولى: أنني أخشى أن يكون الكلام المذكور من سوء الظن بالمسلم، فأنت يا أخي لاتدري ماسبب عدم وصول ذلك الشيخ الكبير إلى ماوصل إليه ابن باز، أهو تقصيره في الوصول إلى ذلك مع قدرته عليه مع توافر الظروف وانتفاء الموانع؟ فهنا لك أن تعاتبه على تفريطه، فليس بعاقل من أمكنه درجة ورثة الأنبياء ثم فوتها كما قال النووي رحمه الله في مقدمة المجموع. لكن الدكتور العريفي ذكر في وصفه لذلك الشيخ ومن كان معه في المجلس أنهم متواضعو القدرات، فكيف يطلب ممن يكون كذلك أن يكون مثل ابن باز، وطالب العلم له مواصفات تؤهله للولوج في بحره والتقاط درره، وليس كل الناس تتوافر فيهم تلك المواصفات، وإلا لكان الناس كلهم علماء؟!
قال ابن القيم رحمه الله: وَلَوْ كُلِّفَ الناس كلهم الِاجْتِهَادَ، وَأَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ فُضَلَاءَ لَضَاعَتْ مَصَالِحُ الْعِبَادِ وَتَعَطَّلَتْ الصَّنَائِعُ وَالْمَتَاجِرُ، وكان الناس كلهم عُلَمَاءَ مُجْتَهِدِينَ، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ شَرْعًا، وَالْقَدَرُ قد مَنَعَ من وُقُوعِهِ (إعلام الموقعين 2/ 204).
والصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا متساويين في العلم والفهم، وهم قد أخذوا من منبع واحد. قال مسروق: لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ [غدير الماء] فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك الإخاذ (الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 343).
فهل يجوز لنا أن نعيب الصحابة الذين لم يبلغوا في العلم درجة أبي بكر وعمر وغيرهما من كبار علماء الصحابة، ونقول: إنهم قصروا في الوصول إلى ذلك كماقصر ذلك الشيخ الكبير في نظر الدكتور العريفي في الوصول إلى درجة ابن باز؟ اللهم لا.
ألم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبابكر الصديق أن يصلي بالناس في مرضه عليه الصلاة والسلام، وفيه إشارة إلى أنه أولى الناس بخلافته، وقال لأبي ذر رضي الله عنه حين سأله أن يستعمله:" يا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ " الحديث رواه مسلم، ولم يلمه النبي صلى الله عليه وسلم على ضعفه ولم يقل له: لماذا لاتكون مثل أبي بكر وعمر المؤهلين للخلافة؟
لماذا لم يصبح سائر من رافق الإمام مالك بن أنس في طلب العلم مثله؟ ولماذا لم يصبح سائر من رافق الإمام أحمد بن حنبل في طلب العلم مثله؟ ولماذا لم يكن سائر من رافق الإمام ابن تيمية في طلب العلم مثله؟ وهكذا قل في سائر أئمة العلم في مختلف العصور، كان لهم زملاء رافقوهم في طلب العلم، ولم يصيروا مثلهم، لماذا؟ أكل أولئك الطلبة كانوا مقصرين مفرطين؟!
اجتمع خلق كثير من الطلاب عند الإمام الكبير سفيان الثوري رحمه الله فقال لتلميذه الفريابي: ترى هؤلاء ما أكثرهم، ثلث يموتون، وثلث يتركون هذا الذي تسمعونه، ومن الثلث الآخر ما أقلَّ من ينجب!
وقال شعيب بن حرب الذي وصفه الذهبي بالإمام القدوة العابد شيخ الإسلام قال: كنا نطلب الحديث أربعة آلاف فما أنجب منا إلا أربعة. (الجامع لأخلاق الراوي 1/ 113)
إنها القدرات والملكات والمواهب التي تتفاوت بين العباد كماأراد الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقد قال تعالى: {أنزل من السماء ماءً فسالت أوديةٌ بقدرِها} قال ابن القيم رحمه الله: شبه سبحانه العلم الذي أنزله على رسوله بالماء الذي أنزله من السماء لما يحصل لكل واحد منهما من الحياة ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم ثم شبه القلوب بالأودية فقلب كبير يسع علما كثيرا كواد عظيم يسع ماء كثيرا، وقلب صغير إنما يسع علما قليلا كواد صغير (مفتاح دار السعادة 1/ 61).
ووجود الفروق الفردية بين الناس وأثر ذلك في تحصيلهم وكسبهم ونشاطاتهم أمر لايحتاج إلى الإطالة في تقريره لأنه بين ظاهر، ولاينكره إلا منكر للواقع، والنصوص من الكتاب والسنة في الدلالة على ذلك كثيرة وليس هذا محل بسطها.
¥