ومن أمثلة ذلك ماذكره المؤلف في ص 198 تحت عنوان جلد الذات في قصة للأحنف بن قيس سيد بني تميم قال: ولم يكن ساد قومه بقوة جسد، ولاكثرة مال ولا ارتفاع نسب، وإنما سادهم بالحلم والعقل، حقد عليه قوم فأقبلوا إلى سفيه من سفهائهم وقالوا له: هذه ألف درهم على أن تذهب إلى سيد بني تميم الأحنف ابن قيس فتلطمه، فذكر القصة من ذاكرته مطولة. وقال المؤلف في آخرها: وقديما قيل: الفائز هو الذي يضحك في النهاية.
أقول: سأذكر القصة من أحد مصادرها ليتبين المراد منها، فقد رواها العسكري في تصحيفات المحدثين 2/ 519 بسنده عن أحمد بن عبيد قال: بينا الأحنف في الجامع بالبصرة فإذا رجل لطمه فأمسك الأحنف يده على عينيه، وقال: ما شأنك؟ فقال: اجتعلت جُعلا على أن ألطم سيد بني تميم، فقال: لست بسيدهم إنما سيدهم جارية بن قدامة. وكان جارية في المسجد فذهب إليه فلطمه، فأخرج جارية من خفه سكينا وقطع يده، وناوله، فقال الرجل: ما أنت قطعت يدي إنما قطعها الأحنف بن قيس. قال ابن الجوزي: وذلك ما أراده الأحنف (الأذكياء /105)
أقول: أحمد بن عبيد هو أبوجعفر النحوي، وهو ضعيف، وقد مات سنة 273 هـ، والأحنف بن قيس مات سنة 64 هـ، فبينهما رجلان على الأقل، فالسند معضل. ولم أقف لهذه القصة على سند ثابت، وفيها نكارة؛ فجارية بن قدامة صحابي فيستبعد أن يقع في مثل هذا الظلم الواضح.
وعلى فرض صحة هذه القصة فليس فيها منقبة للأحنف لأنه انتقم ممن لطمه شر انتقام، فتسبب في قطع يد الرجل لأجل لطمة، ولهذا قال الرجل: ما أنت قطعت يدي إنما قطعها الأحنف بن قيس. وهذا لايجوز شرعا، فقد قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}، وقال: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ماعوقبتم به}، وقال: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل مااعتدى عليكم}، فالجزاء يكون بالمثل، وأي تجاوز له يكون ظلما وعدوانا. ولأن هذه القصة ليس فيها منقبة للأحنف فقد عدت أحد المآخذ الستة التي أخذت على الأحنف.
(انظر أنساب الأشراف 4/ 180، جمهرة الأمثال 1/ 141، الأوائل للعسكري/38)
تنبيه: ذكر المؤلف الرجل الذي قطع يد السفيه باسم حارثة بن قدامة، وهذا تصحيف، والصواب: جارية ابن قدامة.
المحور السادس: القصص والأمثال المذكورة في الكتاب
قد أكثر المؤلف من ذكر القصص في هذا الكتاب، فذكر نحو ست وعشرين قصة من القديم، وثمانيا وعشرين قصة من العصر الحاضر حدثت لأصحاب له أومعارف ونحوهم، واثنتين وخمسين قصة كان هو أحد أطرافها. والذي يعنينا هنا القصص التي نقلها عن السابقين فقد نقلها بلاتوثيق ولاعزو، وبعض هذه القصص لايثبت، ومع ذلك احتج بها.
من أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 217: "وفي يوم رق فيه القلب وأسبلت الدمعة كان الفضيل جالسا يتعبد في الحرم فاشتاق لصاحبه ابن المبارك وتذكر اجتماعهما في مجالس الذكر، فكتب الفضيل إلى ابن المبارك كتابا يدعوه فيه إلى المجيء والتعبد في الحرم، فلما قرأ ابن المبارك الكتاب أخذ رقعة وكتب إلى الفضيل:
ياعابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
إلى آخر الأبيات المشهورة، ثم قال: إن من عباده من فتح الله له في الصيام فيصوم مالايصومه غيره ومنهم من فتح له في قراءة القرآن ومنهم من فتح له في طلب العلم ... وليس ماأنت عليه بأفضل مما أنا عليه، وماأنا عليه ليس بأفضل مما أنت عليه وكلانا على خير. وهكذا انتهى الخلاف بينهما بهدوء، هكذا ببساطة: كلانا على خير ".
أقول: لم أجد أحدا ذكر القصة بهذا السياق، والذي في مصادر قصة ابن المبارك والفضيل أن ابن المبارك هو الذي أرسل إلى الفضيل بتلك الأبيات ابتداء وليس ردا على رسالة للفضيل، ولم يذكر في رسالة ابن المبارك سوى الأبيات. وإليك القصة من أقدم مصادرها، وهوكتاب الفوائد المنتقاة والغرائب الحسان عن الشيوخ الكوفيين لمحمد بن علي الصوري المتوفى سنة 441 هـ في ص 50 قال الصوري:
¥