لكن هناك نشاطا كبيرا لكثير من طلاب علم آخرين، فلهم دروسهم ومحاضراتهم وخطبهم، ويحرصون في كل مايقدمونه للناس على التزام المنهج الصحيح في الدعوة والتعليم؛ لكن المشكلة في تبني الإعلام لهؤلاء الذين هم أنفع للناس من كثير ممن يبرزهم الإعلام في قنواته. يأتي كبار علماء البلاد إلى مدينة من المدن فيلقون فيها محاضرات متنوعة مليئة بالخير فتذهب للتسجيلات فلاتجدهم سجلوا شيئا من تلك المحاضرات، ولاتجد وسائل الإعلام قد سجلت منها شيئا. ويأتي آخر أقل من أولئك بمراحل، وأغلب محاضرته تهريج إن صح هذا التعبير فتجد التسجيلات تتنافس على التسجيل له وإبراز محاضرته بعناوين بارزة، ووضع أشرطته بطرق جذابة ليقبل الناس على شرائها، وبالتالي يشتهر هؤلاء عند العوام وتكون كلمتهم فيهم أقوى من كلمة أولئك العلماء الكبار.
وقد نقل الذهبي في السير 5/ 447 عن أبي حنيفة قال: قدمت المدينة، فأتيت أبا الزناد، ورأيت ربيعة، فإذا الناس على ربيعة، وأبو الزناد أفقه الرجلين، فقلت له: أنت أفقه أهل بلدك، والعمل على ربيعة؟! فقال: ويحك! كف من حظ خير من جراب من علم.
وقال في ميزان الاعتدال 4/ 95: " قال الليث: رأيت أبا الزناد وخلفه ثلاثمائة تابع من طالب علم وفقه وشعر وصنوف، ثم لم يلبث أن بقي وحده، وأقبلوا على ربيعة، وكان ربيعة يقول شبر من حظوة خير من باع من علم - قال الذهبي معلقا-: اللهم اغفر لربيعة، بل شبر من جهل خير من باع من حظوة؛ فإن الحظوة وبال على العالم، والسلامة في الخمول، فنسأل الله المسامحة ".
والمقصود أنه يمكن أن يشتهر من غيره أولى منه؛ لأسباب وعوامل.
والحاصل أن العلماء لم يقصروا في واجبهم فهم يحاضرون ويدرسون، ولكن هناك توجهات إعلامية لاتخفى عليكم يهمها أن تبرز للناس نوعية معينة من المتكلمين، وتبعد نوعية أخرى عنهم لأهداف معينة.
وأما قول الأخ الحوالي: وهل يخشى طالب العلم من لقب واعظ إذا بدأ يدعو إلى الله؟
فالجواب أن هذا اللقب لايخشى منه، فالله تعالى وعظ عباده: {يعظكم لعلكم تذكرون}، {قد جاءتكم موعظة من ربكم}، والوعظ من مهمة الأنبياء {وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}. وفي السنن حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: صلى بِنَا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ منها الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ منها الْقُلُوبُ.
لكن لقب واعظ صار له مفهوم خاص، فيطلق على من يشتغل بتذكير الناس دون عناية بصحة مايذكره، فيكون همه التأثير فيهم ولو كان بذكر أحاديث مكذوبة أو قصص باطلة.
وطالب العلم عليه أن يلزم السنة في وعظه الناس فيتحرى الصواب ويستظل بالمنهج الصحيح في وعظه وتذكيره. وقد رأينا وسمعنا مواعظ كثيرة لأئمة أهل السنة في زماننا كالشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ الألباني رحمهم الله وغيرهم، فكانت كلماتهم مؤثرة وصادقة ومليئة بالخير والبركة مع التزام الحق وتحري السنة واجتناب الخرافات والتمثيل الممجوج.
والمشكلة أن بعض الوعاظ هداهم الله الذين يذكرون كل ماهب ودرج في سبيل التأثير على الناس يتوهمون أن هذا يؤثر في الناس أكثر من تأثير الكتاب والسنة فيهم، وهذا في غاية البطلان، ويغيب عن بالهم أن التأثر الناتج عن تمثيل وتهريج تأثر عارض لافائدة منه، بخلاف التأثر الناتج عن الكتاب والسنة فإنه التأثر النافع الأصيل.
وعلى طالب العلم الذي يعظ الناس أن يتجنب كل الأسباب التي تحوله إلى واعظ بالمصطلح المذكور، وتجعله يخل بالمنهج العلمي الصحيح، كالعناية بالشكل على حساب المضمون، وجعل تأثر الناس غاية يسعى إلى تحقيقها بأي وسيلة ولو كانت مخالفة للشرع، والخوض في كل المجالات التي تقربه للناس ولو كان لايحسنها، وليعتبر بحال من تحول إلى واعظ وليتجنب الأسباب التي أدت به إلى ذلك، والسعيد من وعظ بغيره.
ـ[د. بسام الغانم]ــــــــ[23 - 06 - 08, 12:31 م]ـ
¥