وعلوم الأنبياء من حيث خطابهم للعامة دائرةٌ على ما يصلح الناس في معاشهم ومعادهم، وما جاؤوا ليجادلوا الفلاسفة ولا لإبطال علوم الطب ولا علوم النجم ولا علوم الهندسة وإنما جاؤوا باعتبار هذه العلوم على وجهٍ لا يناقض التوحيد، ونسبة كل ما يحدث في العالم إلى قدرته وإرادته سبحانه .. )).انتهى [ص75ـ78].
هذا ما قاله الأمير عبد القادر، والقارئ يرى بوضوح الاختلاف الكبير بين إيراد تلك المقولة ضمن سياقها، وبين سلخها عن سياقها!. فالأمير يتحاور مع العلماء النصارى ويبيّن لهم الحقائق بطريقة تتناسب مع طبائعهم وتفكيرهم، فضرب لهم المثل بداية باليهود وكيف اعترضوا على النصارى وأنكروا نبوّة المسيح، ورفضوا مبدأ النسخ والتكميل في الشرائع .. إلى غير ذلك من الاعتراضات. ثم ذكّرهم بما ردّت به النصارى على اليهود! ثم قال لهم لقد اعترضتم على المسلمين بمثل ما اعترض عليكم اليهود، ونحن نجيبكم بمثل ما أجبتم اليهود! فإذا كنتم تعدّون أنفسكم على الحق وأنّ ما رددتم به على اليهود حق، فيلزمكم من ذلك أن تقبلوا ردّنا عليكم وتُقِرّوا بأنّ الإسلام هو آخر الشرائع وأنّ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء. ولا يليق بكم أن تعترضوا علينا بما اعترض به اليهود عليكم، لأنكم في ردّكم عليهم بيّنتم بطلان أصل اعتراضهم.
والقارئ يلاحظ أن الأمير لم يقل: لو أصغى إليّ المسلمون واليهود!! وإنما قال والنصارى، إذن نحن لسنا أمام فكرٍ يدعو إلى توحيد الأديان أو إزالة الفوارق بين المسلمين والكافرين، كما يتوهّم البعض، وإنما نحن أمام محاورة يُجْرِيها مسلمٌ مع أهل الكتاب من النصارى حصرًا ـ لأنّهم تعرّضوا لمثل ما تعرّض له المسلمون ـ يحاولُ فيها إلزامهم بالقواعد العقلية التي استندوا إليها في صراعهم مع اليهود.
ومع ذلك أعود فأقول إنّ العبارة ليس فيها الإشكال الذي يظنه البعض. فالجملة صدّرها الأمير بحرف الشرط (لو)، وهو كما يعرف دارسو العربية: حرفُ امتناعٍ لامتناع، أي يدلُّ على امتناع الجواب لامتناع الشرط!!! ففي قولك: (لو درسَ لنجح) امتناعُ النجاح لامتناعِ الدَّرْس!
إذن عندما يقول الأمير: ((لو أصغى إليَّ المسلمون والنصارى لرفعت الخلاف بينهم))
فإنّ العربي يفهم من هذا الكلام امتناعَ رفعِ الخلاف بين المسلمين والنصارى لامتناع إصغائهم!
ومع ذلك فإنّ الأمير أوضح العبارة كي لا تلتبس على أحد، فقال: ((ولكن لا يُصغون إليّ لِمَا سبق في علم الله أنه لا يجمعهم على رأي واحد؛ ولا يرفعُ الخلافَ بينهم إلاّ المسيح عند نزوله ولا يجمعهم لمجرَّد كلامه مع أنه يحيي الموتى ويبرئُ الأكمه والأبرص، ولا يجمعهم إلاَّ بالسيف والقتل)).انتهى
فهل يبقى بعد هذا البيان أي غموض في العبارة؟ لقد قرر الأمير ما استقرّ في عقيدة كل مسلم أنّ النصارى ـ في مجموعهم ـ لن يصغوا إلى المسلمين ولن يعترفوا بالإسلام إلاّ بعد نزول المسيح عليه السلام، ليس هذا فحسب، بل إنهم حتى بعد نزول المسيح لن يستعملوا عقولهم ولن يصغوا بآذانهم وقلوبهم، وإنما سيدفعهم المسيح إلى ذلك بالسيف والقتل!!
فهل في هذا الكلام أي مطعن في عقيدة الأمير الإسلامية؟!
وما كان الأمير ليتودد إلى النصارى ولو ظاهرًا، وهو عندما كان في أَسْرِهم وفي متناولهم، وسمع من بعض أعيانهم ورجالاتهم كلامًا ينتقصون فيه دين الإسلام، كتبَ كتابًا يرد فيه عليهم ووضع له عنوانًا جريئًا قويًا لا يهابُ فيه أحدًا منهم مع أنه يعلم أنه تحت سلطانهم، ولكنّه الإيمان الراسخ بالله وحده، والعزّة بدين الإسلام، والقوة في الدفاع عن هذا الدين. وعنوان الكتاب:
[المقراضُ الحادّ لقطع لسان منتقص دين الإسلام بالباطل والإلحاد]؛وهو مطبوع
¥