وحتى لا أدع أيّ مجال للمشككين أقول: لقد صرّح الأمير عبد القادر ـ بكل اطمئنان وبأوضح بيان ـ بعقيدته في اليهود والنصارى وذلك في رسالته الجوابية إلى مفتي الشام السيد محمود أفندي الحمزاوي، الذي سأله عن بعض الطوائف والأديان. وقد أثبتَ هذه الرسالة محمد باشا في تحفة الزائر وهي من آخر رسائل وفتاوى الأمير!!؛ جاء فيها: (( ... وأمّا قولك أنّ منطوق الآية الشريفة في سورة الحج أنّ المشركين ليسوا هم النصارى ([1] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=26#_ftn1)) .. الخ. فاعلم أنّ النصارى هم أتباع المسيح عليه السلام، وأُمَّته ممن كان تابعًا للمسيح قبل ظهور محمد عليه السلام فهو من أفضل الخلق وأعلاهم درجة، وبعد ظهور محمد عليه السلام مَنْ آمن به فله أجران ويحشر مع الناجين الآمنين ومَنْ كفرَ بما جاء به محمد من النصارى وغيرهم فيُسمّى كافرًا لا مشركًا، إلاّ من قال في المسيح عليه السلام أنه ابن الله ومن اليهود في عُزير أنه ابن الله فهو مشرك والنصارى الحقيقيون هم الذين يعتقدون أن المسيح عليه السلام روحُ اللهِ وكلمتُه ألقاها إلى مريم العذراء البتول عليها السلام وأنه رسول الله إلى بني إسرائيل بشرعٍ ناسخ لبعض شرع موسى عليه السلام والإنجيل المُنزّل عليه كلام الله تعالى حقيقةً لا مجازًا. وفِرَقُ النصارى واعتقاداتهم المختلفة أنتَ أعلم بها فلا نطيل الكلام بذكر مذاهبهم وفِرَقهم. وبالجملة فالنصارى أجهل الناس بالمعقول والإلهيات. والكفرُ: إمّا كفر إنكار، وهو أن يكفر بقلبه ولسانه، وإما كفر جحود وهو أن يعرف الحق بقلبه ولا يقرّ بلسانه، وإما كفر عناد وهو أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه ولا يدين به، وكفر نفاق وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد بقلبه، والجميع سواء في أنه من لقيَ اللهَ تعالى بواحد منهم لا يُغفر له. فقد بان لك أنّ أهل الكتاب لا يُقال فيهم مشركون وإنما يُقال لهم كفّار؛ فإنّ الكافر اسمٌ لمن لا إيمان له بمحمد وبما جاء به من الشرائع والأحكام، ومَنْ أخفى الكفرَ وأظهر الإيمان فهو المنافق، وإن طرأَ عليه الكفر بعد الإيمان فهو المرتد، وإن كان متدينًا ببعض الأديان والكتب المنسوخة فهو الكتابي، وإن قال بقدم الزمان والدهر ونسبَ الحوادث له فهو الدّهريّ، وإن كان لا يُثبتُ الباري تعالى فهو المعطّل، وإن كان يجعل مع الله إلهًا آخر فهو المشرك؛ وشريعة محمدٍ عليه السلام نسخت الشرائع المتقدمة كلّها، فلا يقبل الله تعالى دينًا اليوم من أحدٍ ولو عبدَ اللهَ بعبادة الثّقلين؛ الإنس والجن؛ إلاّ مَنْ عبدَ اتّباعًا بمحمدٍ عليه السلام)).انتهى [تحفة الزائر2/ 246]
وبعد فإنني أعتقد أنّ الأمر أصبح جليًا لا لبسَ فيه.
وأُذكّرُ كل من يتسرّع في اتّهام الآخرين ويُطلق عليهم أحكام الردة والكفر وموالاة الكفرَة، بقول الله تعالى: {ستُكتَبُ شهادتهم ويُسْألون} [الزخرف:19]
وهناك أمر هام جدًّا أريد أن أنبّه عليه: وهو أنّ بعض الأوربيين قرؤوا أو سمعوا عبارات وكلمات من الأمير عبد القادر ففهموا منها معنىً ما، ثمّ ترجموها إلى لغاتهم بحروفهم وأدبيّاتهم، ثمّ جاء بعد ذلك بعض العرب ليقرؤوها ويفهموا منها فهمًا جديدًا قريبًا من المعنى الأجنبي ثمّ بعد ذلك يعيدوا ترجمتها إلى العربيّة. فماذا تكون النتيجة؟ النتيجة أننا نقرأ كلامًا بعيدًا عن الأصل في المعنى. أو لا وجود له، وسأضرب بعض الأمثلة:
استمعَ شارل هنري تشرشل (البريطاني) لخطبة من خطب الأمير عبد القادر وكان من ضمن الخطبة استشهادٌ بآيات من القرآن، فانظروا كيف ترجم تشرشل الآيات التي قرأها الأمير:
1ـ الآية الأولى: يقول تشرشل نقلاً عن الأمير: (( .. فأنتم تعلمون ما نصّ عليه القرآن الكريم من أنّ {النمل يغلب الفيلة وأنّ الجرذان تقتل الأسود}.انتهى [حياة الأمير لتشرشل ص150]
2ـ الآية الثانية: {دع الظلم يسقط على رأس صاحبه}.انتهى [المرجع السابق ص168]
3ـ الآية الثالثة: {من الأفضل أن تكون مظلومًا من أن تكون ظالماً}.انتهى [المرجع السابق ص168]
4ـ الآية الرابعة يقول تشرشل: ((وألقى خطبة كان موضوعها آية قرآنية يلوم فيها محمدٌ صهره عليًا على قتل خمسمئة كافر بعد أن استسلموا)).انتهى [المرجع السابق ص207]
5ـ الآية الخامسة {أنا لا أوجّه الطلقة بل الله هو الذي يوجّهها}.انتهى [المرجع السابق ص146].
أرأيتم كيف تتحرّف الأشياء! هل سمعتم بتلكم الآيات؟ هل يظن عاقلٌ أن الأمير (الحافظ لكتاب الله) يقول تلك الآيات وعلى مسمعٍ من المسلمين أيضًا؟!
الواضح تمامًا أن تشرشل البريطاني فهم معنىً ما من الآيات التي ذكرها الأمير ثم ترجمه للغته ثم أتى المترجم العربي ففهم معنى آخر من الترجمة الأجنبية فصاغه بالعربية على النحو الذي رأيناه.
وقد قال الأستاذ أبو القاسم سعد الله عن ترجمة الآية الأولى: ((ولعل الأقرب إلى هذا المعنى قوله تعالى: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}، وقال عن الآية الثانية: والأقرب إلى هذا المعنى هو قوله تعالى: {ولا يحيق المكر السيئ إلاّ بأهله})).انتهى.
وأما الآية الخامسة فالمقصود ولا ريب قوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}.
هكذا يفعل العقلاء والمنصفون.
وهناك أمثلة أخرى كثيرة وأظن أن ما أوردته يكفي لتوضيح الفكرة.
والحمد لله رب العالمين
خلدون بن مكيّ الحسني
للبحث صِلَة إن شاء الله
([1]) في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17]
¥