فلا علاقة للحادثة طبعاً بإحراق الكتب، ولكنها في الصميم من مقالة أبي إدريس، الذي جعل مسألة إحراق الكتب مدخلاً إلى الموضوع الأصلي، بقوله (وقبل أن أبدأ بالرد على مغالطات صاحب المقال، أود أن أبدأ بمسألة ذكرها صاحب المقال).
إن أبا أدريس يصف غير الأمير من الصوفية، كالسلطان سليم، بعبارة (تقديس ابن عربي)، وبقوله (جميع هؤلاء المتعصبين لابن عربي من السلطان سليم وباقي السلاطين والولاة مروراً بمشيخة الطرق والأضرحة)، وأما عبدالقادر فيقول عنه (كان صوفيّ المشرب وقرأ "الفتوحات المكيّة"، ولكن هذا لا يسمح لي أن أجزم من عند نفسي بأنّه كان موافقاً لابن عربي في كلّ شذوذاته وانحرافاته). فالمقالة كلها تدور على إنكار غلوّ الأمير في التصوف، حتى لتكاد تخرج منها بأنه وسائر الصوفية كان يموتون في حبّ ابن تيمية!
وبالطبع يستطيع أبو إدريس أن يصوغ الألفاظ كما يشاء ليصل إلى ما يريد، ولكنه لا يستطيع إنكار هذه الحادثة المادية الملموسة، وإذا زعم أنها لا تعني شيئاً فالقراء لهم عقول وأفهام.
وإذن فهذه مناسبة سؤالي عن مغزى دفنه بجوار ابن عربي!!
5 - لقد ضرب الأخ محمد المبارك مثالاً واضحاً لما أسميتُه بالجدل غير المثمر، وهو أن أبا إدريس ينفي نسبة كتاب المواقف إلى عبدالقادر، وإذا وجد فيه نصًّا يظنّ أنه يوافق المطلوب فلا بأس بنسبته إليه! فكان جوابه:
أنا ملتزم بمنهج علمي واضح. وعندما استشهدت بكتاب المواقف، كان ذلك من باب إلزام القائلين بصحة نسبته إليه بما فيه. فكل من يقول بأن الأمير هو مؤلّف المواقف يلزمه ضرورة أن يقبل احتجاجنا عليه به. وأمّا أنا فأنفي أن يكون الأمير مؤلّف ذلك الكتاب، لذلك لا يُحتج عليّ بما فيه. وهذا ميزان علمي صحيح.
أقول: استعمال الأخ لهذا الميزان وتصحيحه له يدلّ على مبلغه من إتقان المنهج العلمي والالتزام به!
فلننظر علام استشهد بهذا النصّ، وكيف استدلّ به! يقول:
ثامناً ـ أنا أعلم أنّ الأمير عبد القادر كان صوفيّ المشرب وقرأ "الفتوحات المكيّة"، ولكن هذا لا يسمح لي أن أجزم من عند نفسي بأنّه كان موافقاً لابن عربي في كلّ شذوذاته وانحرافاته، كيفَ لي ذلك وأنا أقرأُ في كتاب المواقف؛ الذي نَسَبه الشيخ محمد نصيف للأمير! (وليس له)؛ قولَ الأمير: "وما يُنسَبُ لسيدنا خاتم الولاية محيي الدين مِنَ الكتب المؤلّفة في علم التدبير والكيمياء، ولغيره من الأولياء الدّاعين إلى الله تعالى؛ فزورٌ وافتراء، فإنّه مُحالٌ أنْ يَدُلَّ وليٌ من أولياء الله، عبادَ الله على ما يقطعهم عن الله تعالى ... وكذا ما يُنسَبُ لسيدنا محيي الدين، من الكتب المؤلّفة في الملاحم والجِفْر كالشّجرة النعمانيّة وغيرها .. وكذا الفتاوى المنسوبة إليه، كذبٌ وزور".انتهى [المواقف 2/ 709] فكما ترون فإنّ الأمير عندما اطّلَعَ على كلامٍِ يُنسبُ للشيخ ابن عربي ووجَدَه مخالفاً للشريعة أسرعَ فنفاه عنه وذلك في كتابه الخاص بعلوم القوم، والسبب في ذلك أنّ الأمير نشَأ على محبّة من يُسمّونهم أولياء الله، ومنهم ابن عربي. فمن باب حُسنِ ظنّه به نفى عنه ما رآه مخالفاً للشرع. ولَسْتُ هنا في معرض تصويب أو تخطئة كلام الأمير في نفي تلك الكتب أو إثباتها، ولكنّ الذي أُريد بيانه أنّ الأمير صرَّح بعدم موافقته على الكلام المخالف للشرع الذي نُسِبَ لابن عربي، فكيفَ يسمح البعض لأنفسهم أن يجزموا بأنّ الأمير كان على معتقد الشيخ ابن عربي من الحلول والاتحاد؟!
فمن الواضح أن عبدالقادر ينفي عن ابن عربي كتب التدبير والكيمياء والملاحم والجِفْر كالشّجرة النعمانيّة وغيرها، ولم يَنْفِ عنه الفصوص ولا الفتوحات، وهما عمدة الناس في الإنكار عليه، ولم يقل إن السبب هو مخالفة تلك الكتب للشريعة، ولا تطرَّق إلى الحلول والاتحاد أصلاً، بل قال (فإنّه مُحالٌ أنْ يَدُلَّ وليٌ من أولياء الله، عبادَ الله على ما يقطعهم عن الله تعالى)، فالسبب إذن هو مخالفة تلك الكتب لأصول الطريقة الصوفية!
فالغريب كل الغرابة أن يستشهد أبو إدريس بهذا النصّ على (عدم موافقة عبدالقادر لابن عربي في كلّ شذوذاته وانحرافاته)، مع أنه أقرب إلى الدلالة على التوافق والتمازج التام بينهما، إذ حاصل كلامه أنه يعرف الصحيح من كلام ابن عربي بذوقه، وأنه موافق على مضمون كل كتاب ثبتت نسبته إليه!
¥