تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

المسافات وتجتاز الحدود القَبَلِيّة والطرق الصوفية والإقليمية لتصبح شعلة واحدة تحرق وجه العدو الدخيل، لم يكن الجهاد وحده هو الذي جعل الناس يضحّون ويتبعون راية الأمير، بل كانت هناك مشاعر متأججة حباً في الأرض وحباً للوطن الجديد الذي رسم حدوده الأمير، وجعل عليه قُضَاتَه وخلفاءه وممثليه، واعترف له العدو بحدوده.

وكان الأمل أكبر من الواقع وكان الزمن أقصر من الأجل، ولو طال العهد لازدهرت الدولة الجديدة وأثمرت الآمال العريضة ولأخصب الدِّين والفكر والعلم والفن في عصرٍ كان العالم الإسلامي كله فيه ينتظر مثلَ هذا الوليد.

لقد ظهرت قبل ذلك الحركة الوهّابية فإذا بها تُضرب قبل أن تكشف عن وجهها الحقيقي، وكشَفت "نهضة" محمد علي عن وجهها فإذا هو وجهٌ علماني سلطاني يبتسم في وجه الأجنبي ويُكشّر في وجه المواطنين. وأخذ سلاطين آل عثمان " يُنظّمون" دولتهم المتداعية فإذا الإصلاحاتُ مفاسدٌ، وإذا الأعداءُ هم المصلحون جالسين يملون على (السلطان) محمود وعبد المجيد وعبد العزيز وأنور (باشا) ومصطفى أتاتورك ما عليهم أن يفعلوا وما عليهم أن يتركوا.

إنّ دولة الأمير الوليدة لم تحاربها فقط جيوش فرنسا حبًا في التسلط والبطولة وطمعًا في إنشاء إمبراطوريّة، ولم يقف ضدّها فقط "الكولون" (يعني المستوطنين الأوربيين) بمحاريثهم وأموالهم لكي يستغلوا الأرض المغتصبة ويَسْتَثْروا على حساب الجزائريين، بل حاربتها أيضًا ظاهرًا وباطنًا، الكنيسة والماسونية (الصهيونية)، كما حاربها سلاطين المسلمين وحتى بعض علمائهم النائمين!

حاربتها الكنيسة لأنها اعتبرتها حركة جهاد إسلامي متوثب فيه انتعاش ونهضة للإسلام الراكد إذا انتصرت، واعتبرت الكنيسةُ نفسُها عمَلَها ذلك استمراراً للصليبية التي خاضت في الشرق والغرب حروباً ضارية ضد الإسلام والمسلمين، بما فيها الأندلس ووهران، وتآمرت عليها الماسونية خصوصًا في الدوائر المحيطة بالحكومة الفرنسية وحاشية الملك وقطعان التراجمة والمستشرقين الذين توافدوا على الجزائر، لأنّ دولة الأمير كانت دولة عربيّة سلفيّة، شريفة، لو انتصرت لكانت خطراً عظيماً على مخططات الماسونية ـ الصهيونية في الشرق!!، ولكانت أول دولة توحّد العرب على كلمة الجهاد كما وحّدتهم عليها زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وزمن الخلفاء الراشدين)).انتهى [(الحركة الوطنية الجزائرية) لأبي القاسم سعد الله ص274ـ275]. [وأظنّ أن الدكتور سعد الله يقصد بالسلفية هنا المعنى العام لها، لا المفهوم الذي استقرّت عليه اليوم].

ويتابع الأستاذ أبو القاسم فيقول: ((وقال فريق من الكتّاب الفرنسيين: إنّ الأمير رجل دين وجهاد وتصوّف، وقالوا: إنّ الدِّين تغلّب على دولته في جميع مجالاتها ومظاهرها: الجيش، المالية، القضاء، حتى العملة والسكّة)) [بيسه شينار "عبد القادر وعبد الكريم" في مجلة الدراسات الآسيوية والإفريقية) ص143ـ 160].

((ويرى فريقٌ آخر أنّ الأمير هو مؤسس الوطنية والسيادة في الجزائر، وأنه جَدَّدَ في الاقتصاد بإبطال الخَرَاج على الرعيّة والامتيازات "للمخزن"، والإبقاء فقط على الزكاة والعشور، وجدد في القضاء فسوى بين الناس وطبّق نصوص القرآن على الجميع، وخصص راتباً قارًّا للقاضي، وجدد في العسكرية فجعل خدمة الوطن واجبة على الجميع، وجدد في مفهوم الدين والتصوف فلم تعد القادريّة هي المثل وإنما جعل وحدة الشعب كله هي الهدف)). [رينيه كاليسو في (هيسبريس ـ ثمودا) ص120ـ 124].

ثمّ يقول الدكتور سعد الله: ((إنّ الأمير في نظري هو موقظ الضمير الوطني الجزائري بأفعاله وأقواله طيلة عهد جهاده الذي بلغ سبعة عشر عامًا. لقد كان هدفه الأساسي إيقاظ وإذكاء ذلك الضمير بجعله الجهادَ في سبيل الله وسيلة، والوحدة الشعبية هدفاً. ولعلّ الأمير قرأ جيداً واستفاد كثيراً من مقولة ابن خلدون:"إنّ العربَ لا تجتمع إلاّ على عصبيّة أو دين" فجعل الأمير العصبية نصب عينيه واستحضر عهد البعثة النبوية وعهد الصحابة، ولم يكن يفرّق في ذلك بين أبناء الجزائر في الأصل فقد كانوا عنده جميعاً عرباً ومسلمين، سواء كانوا سكان مدن أو جبال أو صحار، وسواء كانوا يتكلّمون العربية أو لهجات محليّة. وإنما ظهر عليه أنه لم يرتح لبعض زعماء الكراغلة (وهم أبناء الأتراك من

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير