تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومما يُذكر في هذا المقام، أنّ الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث عندما قرر إطلاق سراح الأمير من سجنه، أمر الماريشال "بيجو" أن يكتب للأمير يخبره بأنّ الحكومة الفرنسية كانت تريد أن تطلق سراحه وترسله إلى مكّة حيث يريد، ولكن الأصوات في مجلس العموم أجبرتها على ترك ذلك، وأنه ربما تمضي سنوات عديدة ولا يتيسّر له التوجه إلى المواضع التي طلبها، ثمّ أشار بيجو على الأمير فقال: ((أشير عليك .. أن توطّن نفسك على جعل فرنسا وطنًا لك، فتطلب من الحكومة أن تعطيك أملاكًا جيدة في أرضها ينتج لك منها ما تعيش به كواحد من كبرائها مع مداومتك على أداء وظائفك الدينية كما تريد وبلوغ مرادك في تربية أولادك .... فهذا ما أشير به بحسب حقوق الإنسانية وبالخصوص عليك لِمَا ألمَّ بك من المصائب مع اتصافك بالصفات الحسنة التي وهبها الله لك، راجيًا قبول تحياتي المقدمة مع الإكرام والاحترام.في 28/ 1/1849م))

فأجابه الأمير بقوله: ((لو جمَعَت فرنسا سائرَ أموالها ثمّ خيّرتني بين أخذها وأكون عبدًا، وبين أن أكون حرًّا فقيرًا مُعْدمًا، لاخترت أن أكون حرًّا فقيرًا، فلا تراجعوني بمثل ذلك الخطاب فإنه ليس عندي بعد هذا الخطاب جواب، وإلى الله تُرجعُ الأمور، وبيده كشْفُ هذا الديْجور)).انتهى [تحفة الزائر 2/ 26ـ27]، (وكان عمر الأمير في حينها 41 عامًا!)

وما ترويه كتب السياسة المعاصرة هو أنّ الدولة العثمانية لمّا توالت هزائمها أمام روسيا وغيرها، وبدأ الوهن والضعف في حكمها وسقط كثير من الأقطار التي كانت تحت سلطتها (ومنها الجزائر)، قامت في بلاد الشام طليعة من دعاة الاستقلال وبحثوا مصير سورية، وعقدوا المؤتمرات السريّة في دمشق سنة 1877م (وكان عُمر الأمير في حينها 72 عاماً!) واقترحوا فصل البلاد عن الدولة العثمانية، وتنصيب الأمير عبد القادر مليكاً عليها، لأنهم وجدوا فيه الحلّ الأمثل للوضع البائس الذي كانت عليه البلاد، لما يتمتّع به الأمير من هيبة واحترام عند العثمانيين والعرب على حدٍّ سواء! وعندما عرضوا على الأمير هذا الموضوع لم يتحمّس له، ولم يرفضه، ولكنّه نصح أن يظلّ الارتباط الروحي بين البلاد الشاميّة والخلافة العثمانية قائماً، وأن يبقى السلطان العثماني سلطاناً على الشام أيضاً.

وأمّا المشروع الفرنسي الجديد الذي ظهر سنة 1870م!!! والذي كان يرمي إلى إنشاء إمبراطوريّة عربيّة تمتد من شمالي بلاد الشام حتى قطاع عكّا يرأسها الأمير عبد القادر، فقد رفضه الأمير بشدّة!

وهذا معروف عند المتابعين لتلك الشؤون في ذلك الوقت.

لقد رفض الأمير عبد القادر هذا المشروع لأنّه مطلب فرنسي استعماري. وبعد سبع سنوات، عندما ظهر المشروع العربي القومي تردّد في قبوله، كان عدم تحمّس الأمير لهذا الأمر ناشئاً عن احترامه لمبدأ الخلافة الإسلاميّة. ثم جاء مؤتمر برلين وتولّى عبد الحميد الخلافة وأصبح سلطاناً فتأخّر الحلّ العربي.

أما علماء المسلمين المتابعون لشؤون الأمير، أمثال الشيخ عبد الرزاق البيطار، وجمال الدين القاسمي، وأديب الحصني، وجميل الشطي، وأمثالهم فلم يذكروا شيئاً عن ذلك أبداً. حتى إنّ السياسي الكبير والمؤرخ المخضرم الأمير شكيب أرسلان صاحب الاطلاع الكبير وشبكة المعارف الواسعة،لم يشر إلى شيء من ذلك عند ترجمته للأمير في حاضر العالم الإسلامي!!

ولكي أزيل اللبس أقول مختصرًا ما قاله المؤرّخون لتلك الحقبة:

عندما خُلِّي سبيل الأمير عبد القادر كانت الدولة العثمانية مقطّعة الأوصال، وبدأت تخسر ممالكها الواحدة تلو الأخرى، وأصبح السلطان العثماني مضطراً إلى التساهل مع الدول الأوربيّة والخضوع للكثير من رغباتها، وفي الوقت نفسه كثُر المفتونون بأوربا وأنظمتها ضمن رجالات السلطان المتنفّذين وكانوا من المعادين للحكم الإسلامي، كما قويت الدعوات القوميّة والعصبيّة التركية، وزاد النفوذ اليهودي في الدولة، وزاد اتفاق الدول الأوربيّة على ضرورة الإجهاز على الدولة العثمانية، هذا إضافةً إلى تردي الأحوال المعيشية في بلاد الشام وشدّة جَور الولاة على الناس، وظهور الحروب الطائفيّة، ثمّ انتصار الروس على الدولة العثمانية. في هذه الأجواء عقد زعماء بلاد الشام مؤتمر دمشق السري للنظر في استقلالها عن العثمانيين، واجتمع رأيهم

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير