على تنصيب الأمير عبد القادر أميراً عليها: ((ورأوا فيه أملهم الوحيد، لأنه الشخصية التي تستطيع إقناع الأتراك بحق العرب في الاستقلال، وهو الذي يمكن أن تتفق عليه كلمة الدول الأوربيّة ذات المصالح المتصارعة في المنطقة بعد ما قام به أثناء الفتنة، وفوق كل ذلك فهو المجاهد ذو النسب الشريف والعالم ذو المقام الرفيع والمحايد الذي يمكن أن تهابه وتنضوي تحت لوائه مختلف الطوائف والملل والعشائر في المنطقة)).انتهى [مقدمة "حياة الأمير عبد القادر" لسعد الله ص26]
ومع ذلك لم يتحمّس الأمير لذلك، وما هي إلاّ أيام ويتسلّم السلطان عبد الحميد الثاني الخلافة وبدأ يبطش بكل من يدعو إلى اعتماد الفكر الغربي، واهتمّ بالجيش وقَوَّى مركز الخلافة، وأخذ يدعو للجامعة الإسلامية، فعندها ارتاح الأمير واطمأن وصار يرفض أي عرض له بتسلُّم الحكم إلى أن مات. [وقد عاصر الأمير خلال وجوده في الشرق أربعة من الخلفاء العثمانيين هم: عبد المجيد وعبد العزيز ومراد الخامس وعبد الحميد الثاني]
هذا الذي أقول هو كلام شديد الاختصار لأنّ الحديث عن تلك الحقبة يقتضي وقتاً طويلاً وليس محل بحثنا الآن،
ولكن إليكم بعض النقول التاريخيّة للاستئناس؛ جاء في كتاب"التاريخ الإسلامي" للأستاذ محمود شاكر 8/ 185: ((ومن الذين فُتنوا بأوربا وأفكارها رجال كان لهم دور خطير في الدولة أمثال أحمد مدحت باشا رئيس مجلس الدولة، وصاحب اليد الأولى في خلع الخليفة عبد العزيز وقتله، وفي خلع الخليفة مراد الخامس. وهؤلاء المفتونون كانوا بعيدين عن معرفة الإسلام، لذا كانوا يتّهمون الخلفاء بالحكم المطلق، ويُطالبون بوضع دستور للدولة إذ يريدون أن تكون على نمط الدول الأوربيّة النصرانية، وأن يكون دستورها من وضع البشر بالشكل الذي عليه الدساتير الأوربيّة، ولا يقبلون أن يكون القرآن الكريم (كتاب الله) دستور الأمّة، وهو الذي يحدّ من تصرفات الخليفة وصلاحياته، وما ذلك إلاّ عِداءً للإسلام، وانبهاراً بالحياة الأوربيّة، وانهزاماً نفسياً، وتحقيقاً للشهوات والأهواء الذاتية.
وزاد النفوذ اليهودي في الدولة مع أطماع اليهود، ومع تَسَلُّم يهود الدونمة عدداً من المراكز الرئيسيّة، وقد نسيَ الناسُ أصلَهم وحقيقتهم، وطبيعة اليهود، إذ أظهروا الإسلام وعاشوا مع أبنائه واختلطوا بهم، يؤدّون الصلاة أمامهم بل يُؤدّون الحج ..
وزاد اتفاق الدول الأوربيّة على الإجهاز على حياة الرجل المريض، إذ كانوا يطلقون هذا اللقب على الدولة العثمانية، وإن ظهرت الاختلافات بين تلك الدول، فظهرت روسيا من جهة، والدول الأخرى من جهة ثانية.
في وسط هذه التيارات والأمواج المتلاطمة تسلّم عبد الحميد الثاني الخلافة .. )).انتهى
ويقول الدكتور أبو القاسم سعد الله: ((وإذا صدقنا ما جاء في كتاب "سطور من رسالة" فإنّ الأمير كان لا يرفض الدعوة التي تجعل منه رأسًا للحركة ولكنه كان يرى أنّ الوقت لم يحن بعد وأن الفكرة في حاجة إلى نضج، ... ولا ندري إن كان الأمير جسّ نبض الموضوع مع السلطات العثمانية وممثلي الدول الأجنبية في المنطقة قبل اتخاذ موقف نهائي. ومهما يكن الأمر فإن الدولة العثمانية قد دخلت من جديد في حرب مع اليونان، وجاء مؤتمر برلين (1878) وتولى السلطنة عبد الحميد الثاني (1876)، وتقدمت السن بالأمير، فتجمّد المشروع مؤقتاً)). انتهى [مقدمة (حياة الأمير عبد القادر) ص27]
ومرّ معنا سابقاً ما قاله الأستاذ سعد الله: (( .. وأخذ سلاطين آل عثمان " يُنظّمون" دولتهم المتداعية فإذا الإصلاحاتُ مفاسدٌ، وإذا الأعداءُ هم المصلحون جالسين يملون على (السلطان) محمود وعبد المجيد وعبد العزيز وأنور (باشا) ومصطفى أتاتورك ما عليهم أن يفعلوا وما عليهم أن يتركوا)).انتهى
إذن المؤرخون المتخصصون لا يستطيعون الجزم في تصورهم لحقيقة الأحداث، وإنما تعاملوا مع المعلومات الواردة بإنصاف وحذر! فليتنا نقتدي بهم.
ـ وأما قول الكاتب أنّ الأمير توقف في اسطنبول ثم استقر في الشام، فيحتاج إلى توضيح.
¥