تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولكن أغرب ما في كلام كاتب (فك الشفرة) هو قوله عن جهاد الأمير والبيعة له:"فكانت بذلك من أوائل الحركات الانفصالية التجزيئية التي أعلنت الخروج على الخلافة الاسلامية العثمانية".انتهى

إذا كان جهاد الأمير للفرنسيين، ومقاتلته للصليبيين الغزاة يُعد عند الكاتب خروجًا على الخلافة، فماذا سيقول عمن كان واليًا للسلطان ثمّ انقلب عليه وتفرّد بالحكم؟ وماذا سيقول عمّن كان مسلمًا فقاتل الجيش العثماني المسلم، وخرج على الخليفة؟ كل هذا وليس هناك أي وجود لا للصليبيين ولا لأي محتل أجنبي!!

لقد انفصل الوالي محمد علي باشا عن الخلافة العثمانية وانفرد بحكم مصر ووجه جيوشه إلى الشام ووصل إلى مشارف اسطنبول. وكذلك الحال في بلاد "نجد" حيث قام محمد بن سعود وحارب العثمانيين وأسس الدولة السعودية الأولى التي وصلت حتى حوران في الشام، وهذا قبل ولادة الأمير عبد القادر!!

فإذا كان الكاتب مقتنعًا بأنّ الأمير خرج على الخلافة!!، فكيف ساغ له أن يقول عن جهاده إنه من أوائل الحركات الانفصالية التجزيئيّة التي أعلنت الخروج على الخلافة، وهناك من سبقه إلى ذلك بعقود بل قبل ولادته؟!! مع أن تلك القناعة هي من الغرائب حقًا، إذ كيف يسمى المجاهد للجيش الفرنسي الصليبي خارجًا عن الخلافة؟!

وأين أعلن الأمير الخروج عن الخلافة؟ ومن روى هذا الخبر؟ وأعجب من ذلك أننا نتحدث عن بلاد تابعة للخلافة العثمانية سقطت تحت الاحتلال الفرنسي الصليبي فتخلّت عنها الخلافة فقام الشعب يجاهد هذا المعتدي، فإذا بكاتب (فك الشفرة) يصف مقاومة الأمير للغزو الصليبي بأنها من أوائل الحركات الانفصالية التجزيئيّة التي أعلنت الخروج على الخلافة!!!!

والله كلام عجيب غريب.

ولم يكتف الكاتب بذلك، فتابع يقول:"وقد عاد الأمير ليكمل ذلك الدور في بلاد الشام، فقد كانت الجمعية الماسونية قد أخذت على عاتقها محاربة الخلافة العثمانية لكونها كانت تقف سداً منيعا أمام الأطماع العالمية في العالم العربي والاسلامي، ولذلك فقد حاولت الجمعية آنذاك بتدبيرٍ من الأمير عبد القادر الجزائري رئيس المحفل السوري الماسوني آنذاك اغتيال متصرف جبل لبنان العثماني للاستقلال عن الدولة العثمانية".انتهى

أقول: عن أي دور يتكلم الكاتب؟ طبعًا هو يقصد الخروج عن الخلافة، وقد رأيتم بطلان هذا الادّعاء، وأمّا اتهامه الأمير بأنه دبّر لاغتيال متصرف جبل لبنان، نزولاً عند رغبة الجمعية الماسونية التي يرأس أحد محافلها!

فنقول له: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [النمل: 64]

لم يكن هناك متصرف لجبل لبنان إلاّ بعد حادثة 1860م، وكان أول متصرف هو داود باشا الأرمني، ولم يقتله أحد! فمن أين أتى الكاتب بهذه الأخبار؟!

وأُعيد ما قاله المؤرخ الكبير أبو القاسم سعد الله لمناسبة الحال: ((إنّ دولة الأمير الوليدة لم تحاربها فقط جيوش فرنسا حباً في التسلط والبطولة وطمعاً في إنشاء إمبراطوريّة، ولم يقف ضدّها فقط "الكولون" (يعني المستوطنين الأوربيين) بمحاريثهم وأموالهم لكي يستغلوا الأرض المغتصبة ويستثروا على حساب الجزائريين، بل حاربتها أيضاً ظاهراً وباطناً، الكنيسة والماسونية (الصهيونية)، كما حاربها سلاطين المسلمين وحتى بعض علمائهم النائمين.

حاربتها الكنيسة لأنها اعتبرتها حركة جهاد إسلامي متوثب فيه انتعاش ونهضة للإسلام الراكد إذا انتصرت، واعتبرت الكنيسةُ نفْسُها عمَلَها ذلك استمراراً للصليبية التي خاضت في الشرق والغرب حروباً ضارية ضد الإسلام والمسلمين، بما فيها الأندلس ووهران، وتآمرت عليها الماسونية خصوصًا في الدوائر المحيطة بالحكومة الفرنسية وحاشية الملك وقطعان التراجمة والمستشرقين الذين توافدوا على الجزائر، لأنّ دولة الأمير كانت دولة عربيّة سلفيّة، شريفة، لو انتصرت لكانت خطراً عظيماً على مخططات الماسونية ـ الصهيونية في الشرق!!، ولكانت أول دولة توحّد العرب على كلمة الجهاد كما وحّدتهم عليها زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وزمن الخلفاء الراشدين)).انتهى [الحركة الوطنية الجزائرية ص274ـ275].

لقد أفشل الأمير مخططات الكنيسة والماسونية في الجزائر وكذلك في الشام، ولكن كاتب (فك الشيفرة) للأسف؛ يعتمد فيما يبدو على ما يروّجه بعض الحاقدين على الأمير.

تنبيه: بعد هزيمة الأمير عبد القادر وغدر الحكومة الفرنسية به وسجنه في فرنسا، اعترفت الدولة العثمانية على لسان سلطانها بالسيادة الفرنسية على الجزائر وذلك سنة (1847م)، وبعد ذلك حدث تقارب بين الفرنسيين والعثمانيين، وشاركت قوات جزائرية فرنسية في حرب القرم إلى جانب الدولة العثمانيّة!!! [انظر الحركة الوطنية ص342،ص373]

فما رأي الكاتب في هذا؟!

والحديث عن الماسونية سأتناوله في الحلقات القادمة إن شاء الله.

وختامًا أنبه إلى مسألة هامّة وهي أنّ الخلافة العثمانيّة حفَّت الأمير عبد القادر برعاية كاملة وحفاوة مطلقة منذ قدومه إلى الآستانة إلى أن مات، وخصصت له الأموال والامتيازات وكان مسموع الكلمة عند السلاطين والولاة، وعُيّن أبناؤه في مناصب حكومية عليا في اسطنبول وحصلوا على أعلى الأوسمة والألقاب، وكذلك أبناء إخوته كانوا مقرّبين جداً من الخليفة وأوكل إليهم العديد من الوظائف الدينيّة كالإفتاء ونقابة الأشراف على كامل الممالك العثمانية؛ وغيرها من الوظائف، وفَرَضَ لهم الخليفة بعد وصولهم إلى بلاد الشام مرتبات شهريّة، وعندما مات الأمير شيَّعته فِرَقٌ من الجنود العثمانيين، واستمرّت الدولة العثمانية على هذا الاحترام والإكرام للأمير وأهله إلى أن خُلِع السلطان عبد الحميد وبدأت جماعة الاتحاد والترقي بالحكم.

فهل كاتب (فك الشفرة) مقتنع بأنّ الخلافة العثمانية بكل رجالاتها وسلاطينها لم تشعر بخطط ونيّات الأمير المعادية لها، سواء عندما كان الأمير في الجزائر أو بعد قدومه إلى دمشق إلى أن مات؟! مع العلم أن السلاطين العثمانيين كانوا بمجرد ظهور بعض الشبهات حول أي شخص وسوء نيّتِه تجاههم يسرعون لاستئصاله.

ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله

خلدون مكي الحسني

للبحث صِلَة إن شاء الله

[1]ـ أثناء حربها مع اليونان قبل ذلك بقليل

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير