تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن العبادة "رغبة" قبل أن تكون "رهبة"، ?لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ? (البقرة:256)؛ أما "الخوف" المذكور مع "الرجاء" في سياق التعبد فله مدلول آخر. ومن هنا كان وصف الإنسان بأنه "عبد" من أحب الأسماء والصفات الإيمانية إلى الله، ومن أحسنها في تسمية الإنسان، كما ورد في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن أحب أسمائكم عند الله: عبد الله، وعبد الرحمن" (رواه مسلم)؛ وذلك لأن هذين الاسمين فيهما نسبة العبد إلى اسم الجلالة "الله"، وإلى أعظم صفة لله عز وجل "الرحمن": ?قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى? (الإسراء:110). وفي ذلك ما فيه من شرف الانتساب التعبدي لله الواحد القهار.

وبهذا المعنى استُعْمِلَ مصطلح "الانتساب الإيماني" أو "التعبدي" في الفكر الإسلامي؛ للدلالة على خصوص استناد العبد إلى الله في كل أمره، وما يجده في ذلك من أذواق وجمال.

ولعل الأستاذ بديع الزمان النورسي -رحمه الله- هو أول من استعمله بهذا الوضوح الاصطلاحي، في سياق تجديد الفكر التربوي الإسلامي؛ إذْ كَشَفَ النقاب بقوة عن مشاهده الجميلة، فرسم بذلك لوحة وجدانية خالدة، كلما طالعتَ أنوارَها تَدَفَّقَتْ بالأسرار. ذلك أن المسلم عند النورسي لم يعد -باعتباره عبدا لله- مجردَ اسْمٍ عَلَمٍ ينادَى، أي: "عبد الله" أو "عبد الرحمن"، وإنما هو صاحب وظيفة مستنبطة من التفكر الخفي، والتدبر الْمَلِيِّ؛ لطبيعة العلاقة بين المضاف والمضاف إليه، في اسم "عبد الله" الذي هو اسم وظيفي -لا عَلَمِي- لكل مسلم حق. إن الإضافة النحوية لها دلالة عظيمة، على مستوى المعاني بالقصد البلاغي والإيماني معا؛ أعني من حيث إنها تفيد اختصاص المضاف إليه بالمضاف، وتفرده به، على سبيل "الامتلاك". وكذا اختصاص المضاف بالمضاف إليه، على سبيل "الاستناد" و"الانتماء".

علاقة النسبي بالمطلق

وهنا تكمن خطورة المصطلح "الانتساب"؛ لأنه تصوير لعلاقة المطلق بالنسبي وما يكتسبه هذا من ذاك. فعلاوة على دقة العلاقة بين مفهومين لا يجمعهما في المنطق إلا معنى التضاد؛ بينما هما هنا يلتقيان في المعنى الإسلامي، في التناسب الجميل المستفاد من علاقة العبادة، وما تحمله من ظلال روحية هادئة. علاوة على ذلك كله فإن المصطلح المدروس يصور بأدقّ ما يكون التصوير الرقي الإنساني، في مدارج الإيمان، حتى يكون أهلا لمقام العطف الرباني والتضييف الرحماني.

وإني لأحسب أن تجديد التدين في المجتمع الإسلامي، لو أنه سعى هذا المسعى القائم على تحقيق معنى "العبودية"، حيث كانت الإضافة فيها إلى الرحمن نقطة استناد؛ لكان له اليوم شأن آخر؛ إذ يمنح العبد معنى القوة والمنعة والحياة، كما في قوله تعالى ?إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً? (الإسراء:65). فـ"ياء" الضمير (المضاف إليه) الدال على الذات الإلهية، يخص المضاف (عباد) بخصوص "الانتساب" الذي يكتسب منه "العبد" شرف النسبة إلى الملك العظيم رب السموات والأرض. فذلك ما عبّر عنه الأستاذ النورسي بـ"الانتساب الإيماني"، كما في قوله يخاطب المؤمن: "إنك تنتسب بهوية الانتساب الإيماني إلى سلطان عظيم ذي قدرة مطلقة". (1)

الانتسابية

وبهذا المعنى فسَّرَ رحمه الله سِرَّ بدء الأعمال كلها في الإسلام بـ"بسم الله الرحمن الرحيم". يقول: "إن الذي يتحرك ويسكن، ويصبح ويمشي بهذه الكلمة "بسم الله" كمن انخرط في الجندية، يتصرف باسم الدولة، ولا يخاف أحدا، حيث إنه يتكلم باسم القانون، وباسم الدولة، فينجز الأعمال ويثبت أمام كل شيء" (2) .. فهذا التشبيه البليغ مقصود للدلالة على الطبيعة الوظيفية، للخدمة التعبدية التي بها فقط ينال المسلم شرف الانتساب الإيماني، ذلك أنه -كما يقول رحمه الله- "يرقى إلى مقام الضيف الكريم في هذا الكون، وإلى مقام الموظف المرموق فيه، رغم أنه ضئيل وصغير بل هو معدوم، وذلك بسموّه إلى مرتبة خطاب ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ? أي: انتسابه لمالك يوم الدين، ولسلطان الأزل والأبد". (3)

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير