تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومن هنا كان الإيمانُ الْمُبَلِّغُ إلى مقام الانتساب انخراطًا وظيفيًّا في حركة الجمال، حيث عمل النورسي على تحسيس طلاّبه بالذوق الانتمائي للإسلام، وتجديد مفهوم الصفة الإسلامية التي أبْلتْها العادات الاجتماعية، وطمستها الظلمات الإلحادية الزاحفة. (4)

ثم إن الناظر في النصوص الشرعية المتضمنة لمفهوم "الانتساب" في القرآن الكريم والسنة النبوية، يجد أن لله عز وجل في مناداة الإنسان وتسميته باعتبار "النسبة" ثلاثة أحوال: الأولى أن ينسبه إلى جِبِلَّتِه وطبيعته الخِلقية، فيسمّيه "الإنسان". والثانية أن ينسبه إلى أبيه؛ فيسمّيه "ابن آدم" و"بني آدم". والثالثة أن ينسبه إليه تعالى فيسمّيه "عبدا"، أو "عبدي" أو "عبادي". ووحدها هذه النسبة الأخيرة تكون في سياق المحبة الإلهية العالية للعباد. فلا يذكر الإنسان بوصفة عبدا إلا للدلالة على حب الله له؛ إذ العبودية محبة متبادلة بين الرب الأعلى والمخلوق الأدنى.

لماذا "الإنسان"؟

ولبيان تفرد وصف الناس "بالعباد" بمعاني المحبة والتقريب، نذكر خلاصة مركزة عن كل من التسمية "بالإنسان"، والمناداة بـ"بني آدم": ففي الأولى يسمي الله الإنسان "إنسانا" في سياق الابتلاء، وتحميله المسؤولية والأمانة. وهي عبارة ذات وقع حيادي على نفس المتلقي والقارئ للقرآن. ولذلك كانت أوضح الآيات في هذا المعنى قول الله عز وجل: ?إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً? (الأحزاب:72). فبقيت عبارة "الإنسان" في القرآن محملة بهذه الدلالة، ومشحونة بهذا الإيحاء. إنه إذن صاحب أمانة؛ أمانة تكليف واستخلاف. ولا أمانة إلا وهي تلقي على صاحبها تبعات كبرى، أقلّ ما فيها المتابعة والمحاسبة.

ومن هنا كان بتحمله الأمانة ظلوما لنفسه، جهولا بخطورة ما تحمل وتقلد. فكان الحكم الابتدائي عليه بالخسران، لأنه راهن على شيء أكبر من حجمه؛ فلا ينجو من حيث هو "إنسان" إلا على سبيل الاستثناء ?وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ? (العصر:1 - 3). وهو استثناء ثقيل يحمل -بعد الإيمان والعمل الصالح- شروطا ثقيلة: التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وتلك هي خلاصة الأمانة. فالإنسان إذن مخلوق مغلول إلى التزامه، مرتهن بقضيته ?وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا? (الإسراء:13)، ?أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى? (القيامة:36). بل هو ملزم بالسير الدائم إلى ربه، سير تتخله المشاق والصعاب؛ لأنه يشق طريقا تخالف ما تشتهيه نفسه البشرية، من دَعَةٍ وملذات دنيوية ورغبات حيوانية؛ ولذلك عبر الله عز وجل عن هذا المعنى بـ"الكدح"، وفي ذلك ما فيه من الإيحاء بمشقة السير، ووعورة الطريق؛ قال سبحانه ?يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ? (الانشقاق:6).

ولم يكن ابتلاء الإنسان مهددا بالخسران؛ إلا لأنه ارتبط ابتلاؤه هذا بطبيعته الطينية، التي تشده إلى الأرض وإلى علائق التراب، بينما غاية "ابتلائه" أن يرتقي إلى السماء. فأعظم به من امتحان عسير، قال عز وجل: ?إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ? (الإنسان:2). فكانت الآيات بمساقاتها تشير إلى أنه كلما انْقَضَّتْ عليه طبيعته الطينية، استجاب لأهوائه وشهواته.

ولذلك كانت له في القرآن الكريم -بهذا الاعتبار- صفات وأحوال كلها تدور حول هذا المعنى، يقول عز وجل ?وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ? (إبراهيم:34). (5) إنها إذن؛ صفات مرتبطة بالخلق والطبيعة الجبلية، ولذا كان التعبير عنها في كثير من الآيات بلفظ ?كَانَ? للدلالة على الثبات والاستمرار كما في التعبير بها عن صفات الله عز وجل في القرآن، وذلك نحو: ?وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولًا? (الإسراء:11). (6)

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير