تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

هذا هو الإنسان! تعبير لا يوحي بالأنس والطمأنينة والسلام وإنما يوحي بالتكليف والحساب!

التوصيف بالآدمية

وأما الثانية فهي نداء الله عباده بتعبير "بني آدم"، وهو قريب في الدلالة من لفظ "الإنسان". بل إن بينهما تداخلا واشتراكا؛ لأنه إذ ينسب إلى أبيه آدم عليه السلام يحيل على خصائص "الآدمية". وآدم عليه السلام هو ذلك المخلوق من طين، المنفوخ فيه من روح رب العالمين. إلا أن الإيحاء هنا لا يركز على جانب الأمانة والمسؤولية والتكليف، بقدر ما يركز على جانب واحد من ذلك كله؛ ظاهر على كل الصفات المضمرة في "الآدمية"، المشاركة للفظ "الإنسان". وهذا الوصف الظاهر البارز في النداء بـ"بني آدم" هو: ضعف العزيمة والنسيان، وهو مأخوذ من قول الله عز وجل: ?وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا? (طه:115). ولذلك كان النداء بـ"بني آدم" دالا على معنى التذكير والتنبيه؛ إذ تعلق بمخلوق شأنه العام هو النسيان وضعف العزيمة. قال تعالى مذكرا ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ? (يس:60). وهذا العهد هو المذكور في قوله تعالى ?وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ? (الأعراف:172).

وهو التنبيه الذي تكرر على سبيل التحذير في قوله تعالى: ?يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ? (الأعراف:27). إنه تذكير للإنسان بـ"آدميته" ?كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ?.

وكل ما عبر فيه بوصف الـ"آدمية" والنسبة إلى الأب الأول، ملحق بهذا المعنى، ولو جاء في سياق التكليف الجزئي، فإنه يحمل في داخله التنبيه إلى خاصية النسيان، وضعف العزيمة، والتحذير منها، كما في قوله تعالى: ?يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ? (الأعراف:35). إنه تعبير يحمل في دلالته ذلك الإيحاء الأول بالتذكير بالعهد؛ أن تخرمه العزائم الضعيفة، والتنبيه من الغفلة والنسيان أن تحاصره الآدمية.

وقد تحيل عبارة "ابن آدم" على معنى "الإنسان" من حيث هو مخلوق على جبلة طينية شرهة، وقد أسلفنا أنَّ بين العبارتين اشتراكا. وعلى هذا المجرى جرى كثير من الأحاديث النبوية التي تضمنت هذا التعبير "ابن آدم". وذلك نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانيا! ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثا! ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب! ويتوب الله على من تاب" (متفق عليه). وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن ابن آدم إن أصابه حَرٌّ قال: حَسِّ، وإن أصابه بَرْدٌ قال: حَسِّ" (رواه الإمام أحمد في المسند) وعبارة "حَسِّ" اسم فعل مضارع بمعنى: "أتضجّر".

وهذان الحديثان إنما هما ترجمة لما ورد في القرآن عن "الإنسان" في مثل قوله تعالى عن المعنى الأول: ?إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ? (العاديات:6 - 8). (7)

التوصيف بالعبودية

ويتفرد النداء الإلهي والتعبير القرآني بوصف الناس بـ"العباد"؛ للدلالة على الرضى والحب والإشفاق وكل المعاني الراجعة إلى صفات الله الرحمن الرحيم الودود الغفور؛ وذلك لما للإنسان بوصفه "عبدا" عند الله من مقام وقرب. وإنما العبد: من انقاد قلبه لربه رغبا ورهبا، وخضعت جوارحه لمولاه طاعة وحبا. وتلك هي الصفة التي جاء الدين لإسباغها على الإنسان؛ فيرقيه إلى أعلى منازل العبودية. وذلك أساس مقتضى شهادة "لا إله إلا الله". فكأن الدين كل الدين إنما هو إعطاء صفة "عبد" لهذا المخلوق (الإنسان)، أو كما قال الشاطبي رحمه الله عن وظيفة الدين المقاصدية، إنما هي "إخراج المكلف عن داعية هواه؛ حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا". (8)

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير