تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم إن وصف "عبد" أو "عباد"، ولو ورد مجردا عن الإضافة، لا معنى له إلا بتقدير الإضافة. وهي النسبة إلى الله سبحانه؛ أي "عبد الله" و "عباد الله". وقد تأتي العبارة صريحة النسبة والإضافة إلى الله، وهذا فرق جوهري هام جدا، في إطلاق ألفاظ: "الإنسان"، و"ابن آدم"، و"عبد الله"؛ إذ ينسب في الأول إلى أصله الخِلقي الجبلي، وينسب في الثاني إلى أبيه، وما تحمله هذه النسبة من دلالة على طبيعة "آدم"، بينما يتفرد التعبير الأخير بنسبته إلى "الله"، وكفى بذلك شرفا ورفعة وجمالا.

ولذلك كان وصف "العبودية" في القرآن لا يرد إلا في سياق البشارة والمحبة والرضى الإلهي الكريم. وما لم يكن ظاهره من الآيات كذلك فهو ملحق بهذا الأصل في المعنى؛ لأن الكلية الاستقرائية إذا استقرت "كلية" رجع إليها كل جزئي، ولو بدا أنه شاذ عنها، كما هو مقرر في الأصول. (9) وأوضح مثال لذلك قوله تعالى: ?وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ? (البقرة:186).

إن هذه الآية الكريمة هي عنوان محبة الرب لعباده في القرآن الكريم .. إنها شلال الواردات الخفي، الهامي بالرحمة والمغفرة على قلوب عباده التائبين، الطارقين باب الله، فقراء محتاجين! ولقد التقط الأستاذ سيد قطب رحمه الله منها لطائف من رَوْح الله فقال: "إضافة العباد إليه، والرد المباشر عليهم منه .. لم يقل: "فقل لهم إني قريب" .. إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال: قريب! (…) إنها آية عجيبة .. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة والود المؤنس، والرضى المطمئن، والثقة واليقين .. ويعيش منها المؤمن في جناب رضي، وقربى ندية، وملاذ أمين وقرار مكين". (10)

ذلك أن الطريقة الغالبة في السؤال والجواب في القرآن -كما قرره علماء القرآن- أن يجيب الله عز وجل على أسئلة الناس بقوله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: ?قُلْ?؛ إمعانا في ترسيخ نبوته، ورسالته إلى الناس، معلّما ومربّيا ورسولا. وتلك خلاصة "عقيدة الاتباع" في شهادة "أن محمدا رسول الله"، وهو أغلب أسلوب القرآن في هذا الشأن. وذلك نحو قوله تعالى: ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ? (البقرة:189)، وقوله عز وجل:?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى? (البقرة:222) ونحو ذلك كثير جدا. (11)

وإنما المهم عندنا هنا أن خلو هذه الآية ?وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي? من لفظ "قُلْ"، يدل على خصوص السؤال الآتي من "العباد"؛ ذلك أنهم هنا يسألون عن "معبودهم" لا عن كيف يعملون في أمور الدين! إذ إن قضايا الشريعة والأحكام هي شأنُ الرسول الْمُعَلِّم، الذي بُعِثَ ليعلّم الناس كيف يعبدون الله. أما هؤلاء فإنهم الآن يسألون عن الله ذاته سبحانه، لا عن كيف يعبدونه! يسألون عن باب معرفته ورضاه! إنه سؤال محبة وشوق ووجدان؛ فهو مثل ذلك الذي قال الله تعالى فيه، في الحديث القدسي: "ذلك بيني وبين عبدي .. ولعبدي ما سأل! " (رواه مسلم)

إذن فالقضية "عبادة"، والعبادة وجدان، لا تصح إلا إذا خلَتْ من كل شريك، ولو كان نبيّا! والدين إنما هو إخلاص القلب لله وحده. وهؤلاء إنما سألوا عن مثل هذا، فلا موضع لـ "قُلْ" هذه؛ في هذا السياق! فاعبد ربك تجده أمامك بلا واسطة، ولا حجاب يحجبه عن قلبك المحب المشوق! ?أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ? .. إنه يجيبك أيها العبدُ الداعي ربَّكَ تضرعا وخفية، وإنما "الدعاء هو العبادة" (12) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .. هكذا على سبيل الاستغراق والشمول. ولا عبادة حقة إلا خالصة لله ..

العبودية تشريف وتحبيب

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير