تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ويا لروعة التعبير القرآني! إذ يفصل هذا المعنى الذي هو واقع منه تعالى بقصد "التخويف" التربوي، إذْ يكشف الله تعالى فيه عن جمال من سر الحب الإلهي عجيب .. جمالٍ يضرب بأنواره الباهرة في أعماق الوجدان؛ فيبهر القلوب، ويخطف العواطف! قال سبحانه ?يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ? (يس:30). يا سلام! نعم، صحيح أن الله تعالى -كما تنقل تفاسير السلف- لا يتحسّر! وإنما يصور سبحانه بأسلوب جذّاب أخّاذ ما يقع بقلب العبد المؤمن من أسى وحسرة؛ إذ يشاهد مآل الكفار ومصيرهم البئيس التعيس، وما فرطوا فيه من النعيم المقيم والخير العميم، مما لا يملك معه الإنسان إلا الحسرة والأسى. (15) بَيْدَ أن العبارة دالّة أيضا على منتهى الرحمة في خطاب الله لعباده ولو كانوا كافرين. وأي قلب لا يتحسر إذ يدرك هذه الحقيقة الرهيبة؟! هؤلاء الناس الذين يتسابقون سراعا نحو هاوية الجحيم، يلقون بأنفسهم في غياباتها تباعا. ?يَا حَسْرَةً? والتعبير بـ"الحسرة" لا يكون إلا في سياق الأسى على فوت محبوب، أو ضياع مرغوب. ولذلك فهو دال على المحبة. والله عز وجل -تنزّه عن التحسر- إذ ذكر ذلك مصورا عاطفة إيمانية بشرية، سمّى أولئك الكفار "عبادا"؛ لأن السياق سياق محبة وإشفاق. والأصل في الأمر الكوني أن الله تعالى يحب الناس، كل الناس. وما كان يرضى لهم ما وقعوا فيه من كفر وضلال، فهو الذي قال: ?وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ? (الزمر:7) .. ولكن هم ظلَموا أنفسهم إذْ أغضبوا الله عز وجل ?ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ? (آل عمران:182) .. أفلا يستوجب الأمر إذن أن تصرخ: ?يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ?؟! .. كلمات في قمّة البلاغة ودقّة التعبير .. كلمات ذات إيحاء لطيف لا يُكشف عن سره إلا ذوقا ..


الهوامش
(1) اللمعات لسعيد النورْسي، ص 388؛ وانظر: الشعاعات لسعيد النورْسي، ص13.
(2) الكلمات لسعيد النورسي، ص6 – 7؛ وانظر: اللمعات لسعيد النورْسي، ص278.
(3) الكلمات لسعيد النورْسي، 1/ 45.
(4) نقلا عن كتابنا "مفاتح النور" بتصرف يسير. ص279 - 283.
(5) وانظر: النحل:4؛ المعارج:19 - 21.
(6) وانظر: الإسراء:67، 100.
(7) ونظر: الفجر:19 - 20؛ لمعارج:19 - 21.
(8) الموافقات للشاطبي، 2/ 168.
(9) الموافقات للشاطبي، 2/ 53.
(10) في ظلال القرآن للسيد قطب، 1/ 173.
(11) وانظر: البقرة:215، 217، 219، 220؛ الأنفال:1؛ الإسراء:85؛ الأحزاب:63.
(12) رواه الإمام أحمد في المسند، وابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب المفرد.
(13) قال ابن حجر: "كَنَفَهُ: بفتح الكاف والنون، بعدها فاء، أي جانبه، والكَنَفُ أيضا: السِّتْرُ، وهو المراد هنا. والأول مجاز في حق الله تعالى، كما يقال: فلان في كنف فلان؛ أي في حمايته وكلاءته." فتح الباري لابن حجر، 10/ 488.
(14) وانظر: سورة ص:45، 30، 17، 41، 44؛ الإسراء:3.
(15) وقيل أيضا: هو بيان لما يقع بقلوب الناس من حسرة وندامة؛ مما فرطوا في جنب الله؛ فكفروا وكذبوا! رواه الطبري عن مجاهد وقتادة، ونحوه عن ابن عباس: جامع البيان: 23/ 2،3. وهذا المعنى وذاك كلاهما وارد عند الطبري والقرطبي وابن كثير في تفسير الآية من سورة يس.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير