أن لا يحكيها لمن يتقلدها بل يسكت عن ذكرها إلى أن يتيقن صحتها وإلا توقف في قبولها فما أكثر ما يحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له وكثير من المسائل يخرجها بعض الأتباع على قاعدة متبوعة مع أن ذلك الإمام لو رأى أنها تقضي إلى ذلك لما التزمها , والشاهد يرى ما لا يرى الغائب , ومن علم فقه الأئمة وورعهم علم أنهم لو رأوا هذه الحيل وما أفضت إليه من التلاعب بالدين لقطعوا بتحريم ما لم يقطعوا به أولا.
ـ[أبو فراس فؤاد]ــــــــ[25 - 06 - 08, 01:58 ص]ـ
الوجه الثاني:
أن الذين أفتوا من العلماء ببعض مسائل الحيل, أو أخذ ذلك من بعض قواعدهم لو بلغهم ما جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لرجعوا عن ذلك يقينا, فإنهم كانوا في غاية الإنصاف , فكان أحدهم يرجع عن رأيه بدون ما في هذه القاعدة, وقد صرح به غير واحد منهم , وإن كانوا كلهم مجتمعين على ذلك.
قال الشافعي رضي الله عنه: إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاضربوا بقولي الحائط "
وهذا قول لسان حال الجماعة, ومن أصولهم: أن أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنتشرة لا تترك إلا بمثلها , وقد ذكرنا في التحليل والعينة وغيرهما من الأحاديث والآثار ما يقطع معه اللبيب أن لا حجة لأحد في مخالفتها ولم تشتمل كتب من خالفها من الأئمة عليها حتى يقال: إنهم تأولوها فعلم أنها لم تبلغهم.
الوجه الثالث:
أن القول بتحريم الحيل قطعي ليس من مسائل الاجتهاد كما قد بيناه وبينا إجماع الصحابة على المنع منها بكلام غليظ يخرجها من مسائل الاجتهاد, واتفاق السلف على أنها بدعة محدثة, وكل بدعة تخالف السنة وآثار الصحابة فإنها ضلالة, وهذا منصوص الإمام أحمد وغيره.
وحينئذ:
1 - فلا يجوز تقليد من يفتي بها.
2 - ويجب نقض حكمه.
3 - ولا يجوز الدلالة لأحد من المقلدين على من يفتي بها.
مع جواز ذلك في مسائل الاجتهاد , وقد نص أحمد على هذه المسائل في مثل هذا، وإن كنا نعذر من اجتهد من المتقدمين في بعضها , وهذا كما أن أعيان المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدهم في مسألة المتعة والصرف والنبيذ ونحوها بل عند فقهاء الحديث أن من شرب النبيذ المختلف فيه حد , وإن كان متأولا واختلفوا في رد شهادته فردها مالك دون الشافعي وعن الإمام أحمد روايتان , مع أن الذين قالوا بالمتعة والصرف معهم فيهما سنة صحيحة , لكن سنة المتعة منسوخة , وحديث الصرف يفسره سائر الأحاديث , فكيف بالحيل التي ليس لها أصل من سنة ولا أثر أصلا بل السنن والآثار تخالفها.
وقولهم:
(مسائل الخلاف لا إنكار فيها)
ليس بصحيح فإن الإنكار:
1 - إما أن يتوجه إلى القول بالحكم.
2 - أو العمل.
أما الأول:
فإذا كان القول:
1 - يخالف سنة, أو إجماعا قديما وجب إنكاره وفاقا.
2 - وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول: المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء.
وأما العمل:
1 - فإذا كان على خلاف سنة, أو إجماع وجب إنكاره أيضا بحسب درجات الإنكار كما ذكرناه من حديث شارب النبيذ المختلف فيه , وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة , وإن كان قد اتبع بعض العلماء.
2 - وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهدا, أو مقلدا.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة:
أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس.
والصواب الذي عليه الأئمة:
أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا, مثل حديث صحيح لا معارض من جنسه فيسوغ له - إذا عدم ذلك فيها - الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة، أو لخفاء الأدلة فيها.
وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها.
مثل:
1 - كون الحامل المتوفى عنها تعتد بوضع الحمل.
2 - وأن الجماع المجرَّد عن إنزال يوجب الغسل.
3 - وأن ربا الفضل والمتعة حرام.
4 - وأن النبيذ حرام.
5 - وأن السنة في الركوع الأخذ بالركب.
6 - وأن دية الأصابع سواء.
7 - وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم ربع دينار.
8 - وأن البائع أحق بسلعته إذا أفلس المشتري.
9 - وأن المسلم لا يقتل بالكافر.
10 - وأن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة.
11 - وأن التيمم يكفي فيه ضربة واحدة إلى الكوعين.
12 - وأن المسح على الخفين جائز حضرا وسفرا.
إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى.
وبالجملة:
من بلغه ما في هذا الباب من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها فليس له عند الله عذر بتقليد من ينهاه عن تقليده ويقول له: لا يحل لك أن تقول ما قلت حتى تعلم من أين قلت, أو يقول: إذا صح الحديث فلا تعبأ بقولي.
ولو لم يكن في الباب أحاديث, فإن المؤمن يعلم بالاضطرار أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ممن يعلم هذه الحيل ويفتي بها هو ولا أصحابه, وأنها لا تليق بدين الله أصلا, وهذا القدر لا يحتاج إلى دليل أكثر من معرفة حقيقة الدين.
¥