ـ[أبو فراس فؤاد]ــــــــ[25 - 06 - 08, 01:59 ص]ـ
الوجه الرابع:
أنا لو فرضنا أن الحيل من مسائل الاجتهاد - كما يختاره في بعضها طائفة من أصحابنا وغيرهم - فإنا إنما بينا الأدلة الدالة على تحريمها كما في سائر مسائل الاجتهاد , فأما جواز تقليد من يخالف فيها ويسوغ الخلاف فيها وغير ذلك فليس هذا من مواضع الكلام فيه, وليس الكلام في هذا مما يختص هذا الضرب من المسائل , فلا يحتاج إلى هذا التقرير أن يجيب عن السؤال بالكلية, وحينئذ فمن وضح له الحق وجب عليه اتباعه , ومن لم يتضح له الحق فحكمه حكم أمثاله في مثل هذه المسائل.
الوجه الخامس:
أن المتأخرين أحدثوا حيلا لم يصح القول بها عن واحد من الأئمة ونسبوها إلى مذهب الشافعي , أو غيره , وهم مخطئون في نسبتها إليه على الوجه الذي يدعونه خطأ بينا يعرفه من عرف نصوص كلام الشافعي وغيره , فإن الشافعي رضي الله عنه ليس معروفا بأن يفعل الحيل ولا يدل عليها ولا يشير على مسلم أن يسلكها ولا يأمر بها من استنصحه، بل هو يكرهها وينهى عنها بعضها كراهة تحريم وبعضها كراهة تنزيه , وكثير من الحيل أو أكثر الحيل المضافة إلى مذهبه من تصرفات بعض المتأخرين من أصحابه تلقوها عن المشرقيين.
نعم، الشافعي رضي الله عنه يجري العقود على ظاهر الأمر بها من غير سؤال المعاقد عن مقصوده، كما يجري أمر من ظهرت زندقته , ثم أظهر التوبة على ظاهر قبول التوبة منه من غير استدلال على باطنه، وكما يجري كنايات القذف وكنايات الطلاق على ما يقول المتكلم إنه مقصوده من غير اعتبار بدلالة الحال, وربما أخذ من كلامه عدم تأثر العقد في الظاهر بما يسبقه من المواطأة وعدم فساده بما يقارنه من النيات على خلاف عنه في هذين الأصلين.
أما أن الشافعي رضي الله عنه , أو من هو دونه يأمر الناس بالكذب والخداع بما لا حقيقة له، وبشيء يتيقن بأن باطنه خلاف ظاهره فما ينبغي أن يحكى هذا عن مثل هؤلاء؛ فإن هذا ليس في كتبهم , وإنما غايته أن يؤخذ من قاعدتهم، فرب قاعدة لو علم صاحبها ما تفضي إليه لم يقلها.
فمن رعاية حق الأئمة أن لا يحكى هذا عنهم - ولو روي عنهم - لفرط قبحه.
ولهذا كان الإمام أحمد رضي الله عنه يكره أن يحكي عن الكوفيين والمدنيين والمكيين المسائل المستقبحة.
مثل:
1 - مسألة النبيذ.
2 - والصرف.
3 - والمتعة.
4 - ومحاش النساء.
إذا حكيت لمن يخاف أن يقلدهم فيها، أو ينتقصهم بسببها , وفرق بين أن آمر بشيء. أو أفعله , وبين أن أقبل من غيري ظاهره.
وقد كان بين الأئمة من أصحاب الشافعي من ينكرون على من يحكي عنه الإفتاء بالحيل:
مثل ما قاله الإمام ابن عبد الله ابن بطة:
سألت أبا بكر الآجرِّي - وأنا وهو في منزله في مكة - عن هذا الخلع الذي يفتى به الناس - وهو أن يحلف رجل أن لا يفعل شيئا لا بد له من فعله , فيقال له: اخلع زوجتك , وافعل ما حلفت عليه , ثم راجعها - , واليمين بالطلاق ثلاثا.
وقلت:
إن قوما يفتون الرجل الذي يحلف بأيمان البيع ويحنث أن لا شيء عليه , ويذكرون أن الشافعي لم ير على من حلف بيمين البيعة شيئا.
فجعل أبو بكر يعجب سؤالي عن هاتين المسألتين في وقت واحد.
ثم قال لي:
اعلم منذ كتبت العلم وجلست للكلام فيه , والفتوى ما أفتيت في هاتين المسألتين بحرف.
ولقد سألت أبا عبد الله الزبيري الضرير عن هاتين المسألتين , كما سألتني عن التعجب ممن يقدم على الفتوى فيهما فأجابني بجواب كتبته عنه.
ثم قام فأخرج لي كتاب أحكام الرجعة والنشوز من كتاب الشافعي , وإذا مكتوب على ظهره بخط أبي بكر:
سألت أبا عبد الله الزبيري فقلت له: الرجل يحلف بالطلاق ثلاثا أن لا يفعل شيئا , ثم يريد أن يفعله. وقلت له: إن أصحاب الشافعي يفتون فيها بالخلع ; يخالع ثم يفعل فقال الزبيري ما أعرف هذا من قول الشافعي , ولما بلغني أن له في هذا قولا معروفا, ولا أرى من يذكر هذا عنه إلا محيلا.
وقلت له:
الرجل يحلف بأيمان البيعة , فيحنث ويبلغني أن قوما يفتونهم أن لا شيء عليه , أو كفارة يمين , فجعل الزبيري يتعجب من هذا.
وقال:
أما هذا فما بلغني عن عالم ولا بلغني فيه قول ولا فتوى، ولا سمعت أن أحدا أفتى في هذه المسألة بشيء قط.
قلت للزبيري:
ولا عندك فيها جواب.
فقال:
إن ألزم الحالف نفسه جميع ما في يمين البيعة, وإلا فلا أقول غير هذا.
قال الإمام أبو عبد الله ابن بطة:
فكتبت هذا الكلام من ظهر كتاب أبي بكر وقرأته عليه.
ثم قلت له:
فأنت إيش تقول يا أبا بكر؟
فقال:
هكذا أقول , وإلا فالسكوت عن الجواب أسلم لمن أراد السلامة إن شاء الله تعالى.
ذكر هذا الإمام ابن عبد الله ابن بطة في جزء صنفه في الرد على من يفتي بخلع اليمين وذكر الآثار فيه عن السلف بالرد له وأنه محدث في الإسلام.
وأبو عبد الله الزبيري أحد الأئمة الأعلام من قدماء أصحاب الشافعي رضي الله عنه فإذا كان هذا في خلع اليمين فكيف أن يهبه شيئا ليقفه عليه وأمثالها!
¥