وبالغ فريق من أهل العلم وطائفة ممن ذكرهم آنفا فقالوا ببطلان صلاة من قرأ من المصحف وهو يصلي، وأفسدوا بذلك صلاته مطلقا، وهو مروي عن أبي حنيفة، وحمله أبو بكر الرازي من أصحابه على غير الحافظ، والقول ببطلان صلاة من قرأ فيها من المصحف هو مذهب أهل الظاهر، وقول عند أصحابنا الحنابلة، وحكاه بعضهم رواية عن الإمام أحمد، وعزاه ابن حزم إلى الشافعي، بيد أن بعض أهل التحقيق قد غلّطه كما مر.
واختلف عن أبي حنيفة في القدر المبطل، فالمشهور أنها تبطل بالقليل والكثير، وقيل بالآية، وقيل بقدر الفاتحة (29).
** حجة المانعين:
احتج القائلون بمنع القراءة بالمصحف في الصلاة بحجج نقلية وعقلية، فمن المنقول عموم قوله عليه السلام في الحديث المتفق عليه: ((إن في الصلاة شغلا)).
وبما رُوي عن ابن عباس-رضي الله عنهما- أنه قال: " نهانا أمير المؤمنين عمر أن يؤم الناس بالمصاحف " (30).
وما روي عن عمار بن ياسر أنه كان يكره أن يؤم الرجل الناس بالليل في شهر رمضان في المصحف، قال هو من فعل أهل الكتاب (31).
وروي أن سويد بن حنظلة مر على رجل يؤم قوما في مصحف، فضربه برجله!، وفي لفظ أن سويد بن حنظلة مر بقوم يؤمهم رجل في المصحف فكره ذلك في رمضان، ونحى المصحف (32).
وبما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: " كانوا يكرهون أن يؤمهم وهو يقرأ في المصحف، فيتشبهون بأهل الكتاب ".
وفي لفظ عنه أيضا قال: " كانوا يكرهون أن يؤم الرجل في المصحف كراهية شديدة أن يتشبهوا بأهل الكتاب " (33).
وبما روي عن الحسن البصري: " أنه كره أن يؤم الرجل في المصحف قال: كما تفعل النصارى " (34).
كما رويت الكراهة عن مجاهد وسعيد بن المسيب وأب عبد الرحمن السلمي وقتادة وحماد وغيرهم (35).
فهذه النقول تعلل كراهة القراءة من المصحف في الصلاة، بكونها عملا يخل بالخشوع فيها، ويتنافى مع وجوب التفرغ لها، ويشغل عن بعض سننها وهيآتها، فيفوت سنة النظر إلي موضع السجود، ووضع اليمنى على الشمال، ويفضي إلى التشبه بأهل الكتاب، فضلا عن كونه إحداثا في الدين لم يرد الشرع بإباحته ...
قالوا: ونظير القراءة في المصحف أن ينظر إلى كتاب فيه حساب، أو كلام غير القرآن فيأخذ بقلبه، فهذا مما لا خلاف فيه أنه لا يفسد الصلاة، ذكر ذلك الجصّاص في كتابه " مختصر اختلاف العلماء " للطحاوي في معرض مناقشة أبي جعفر الطحاوي لدليل مجوزي القراءة من المصحف في الصلاة، قال: (وقالوا: إن أخذه ما في المصحف بقلبه كنطقه بلسانه، ولو نطق بالقرآن لم يفسد كذلك أخذه بقلبه. فيقال له: لو كان كذلك لوجب أن يكون نظره إلى ما في المصحف، وأخذه له بقلبه كنطقه بلسانه، فكان يجب أن يجزئ من تلاوته وهو لا يقول ذلك، فثبت بذلك أن صلاة غير متأمل غير القرآن إذا أخذه بقلبه إنما بطلت، لأن ذلك عمل كسائر الأعمال المنافية للصلاة، فوجب أن يكون أخذه القرآن بقلبه من المصحف بنظره، كعمله بيده يكتبه إياه فيفسد صلاته) (36).
قال ابن حزم: (ولا يحل لأحد أن يؤم وهو ينظر ما يقرأ به في المصحف، لا في فريضة ولا نافلة، فان فعل عالما بأن ذلك لا يجوز بطلت صلاته وصلاة من ائتم به عالما بحاله عالما بأن ذلك لا يجوز.
قال علي: من لا يحفظ القرآن فلم يكلفه الله تعالى قراءة ما لا يحفظ، لأنه ليس ذلك في وسعه، قال تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) فإذا لم يكن مكلفا ذلك فتكلفه ما سقط عنه باطل، ونظره في المصحف عمل لم يأت بإباحته في الصلاة نص، وقد قال عليه السلام: (إن في الصلاة لشغلا) اهـ كلام ابن حزم (37).
وقال السرخسي في المبسوط: (ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى طريقان أحدهما أن حمل المصحف وتقليب الأوراق والنظر فيه والتفكر فيه ليفهم عمل كثير وهو مفسد للصلاة كالرمى بالقوس في صلاته وعلى هذا الطريق يقول إذا كان المصحف موضوعا بين يديه أو قرأ بما هو مكتوب على المحراب لم تفسد صلاته، والأصح أن يقول: إنه يلقن من المصحف فكأنه تعلم من معلم، وذلك مفسد لصلاته ألا ترى أن من يأخذ من المصحف يسمى صحفيا، ومن لا يحسن قراءة شيء عن ظهر قلبه يكون أميا يصلى بغير قراءة، فدل أنه متعلم من المصحف، وعلى هذا الطريق لا فرق بين أن يكون موضوعا بين يديه أو في يديه، وليس المراد بحديث ذكوان:" أنه كان يقرأ من المصحف في الصلاة "
¥