تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومما ينبغى أن يعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة الحد على شخص في الدنيا، إما بقتل أو جلد أو غير ذلك، ويكون في الآخرة غير معذب، مثل قتال البغاة والمتأولين، مع بقائهم على العدالة، ومثل إقامه الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة، فإنا نقيم الحد عليه مع ذلك، كما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك وعلى الغامدية، مع قوله: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكْسٍ لغفر له)، ومثل إقامة الحد على من شرب النبيذ المتنازع فيه متأولا، مع العلم بأنه باق على العدالة.

بخلاف من لا تأويل له، فإنه لما شرب الخمر بعض الصحابة / واعتقدوا أنها تحل للخاصة تأول قوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ} [المائدة: 93]، اتفق الصحابة مثل عمر بن الخطاب، وعلى بن أبي طالب وغيرهما، على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا.

وكذلك نعلم أن خلقًا لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة، مثل أهل الذمة المقرين بالجزية على كفرهم، ومثل المنافقين المظهرين الإسلام، فإنهم تجرى عليهم أحكام الإسلام، وهم في الآخرة كافرون، كما دل عليه القرآن في آيات متعددة، كقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} الآية [النساء: 145]، وقوله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}

الآية [الحديد: 13 ـ 15].

وهذا لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة، التى هى دار الثواب والعقاب، وأما الدنيا فإنما يشرع فيها من العقاب ما يدفع / به الظلم والعدوان، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]، وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42]، وهذا لأن المقصود بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، هو إقامة القسط، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]

وإذا كان الأمر كذلك فعقوبة الدنيا غير مستلزمة لعقوبة الآخرة، ولا بالعكس، ولهذا أكثر السلف يأمرون بقتل الداعى إلى البدعة، الذى يضل الناس لأجل إفساده في الدين، سواء قالوا: هو كافر، أو ليس بكافر

وإذا عرف هذا، فتكفير [المعين] من هؤلاء الجهال وأمثالهم ـ بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار ـ لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحده الحجة الرسالية، التى يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.

وهكذا الكلام في تكفير جميع [المعينين]، مع أن بعض هذه / البدعة أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحَجَّة.

ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير