وما تنازعوا في معنى آية الأعراف، وآية إبراهيم، فقال قوم: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه، ولا كان يأكل ذبائحهم؛ وهذا هو المنقول عن أحمد قال: من زعم أنه على دين قومه فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب؟
ثم قال الشيخ: ولعل أحمد قال: أليس كان لا يعبد الأصنام؟ فغلط الناقل عنه، فإن هذا قد جاء في الآثار أنه كان لا يعبد الأصنام.
وأما كونه لايأكل ذبائحهم، فهذا لا يعلم أنه جاء به أثر ; وأحمد من أعلم الناس بالآثار، قال: والشرك حرم من حين أرسل الرسل ; وأما تحريم ما ذبح على النصب، فإنه ما ذكر إلا في سورة المائدة ; وقد ذكر في السور المكية كالأنعام والنحل تحريم ما أهل به لغير الله، وتحريم هذا إنما عرف من القرآن.
وقبل القرآن لم يكن يعرف تحريم هذا بخلاف الشرك. ثم ذكر الفرق بين ما ذبحوه للحم، وبين ما ذبحوه للنصب على جهة القربة للأوثان، قال: فهذا من جنس الشرك، لا يقال قط في شريعة بحلها، كما كانوا يتزوجون المشركات أولا.
قال: والقول الثاني: إطلاق القول بأنه صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه، وفسر ذلك بما كان عليه من بقايا دين إبراهيم، لا بالموافقة لهم على شركهم، وذكروا أشياء مما كانوا عليه من بقايا الحنيفية، كالحج والختان وتحريم الأمهات والبنات، والأخوات والعمات والخالات.
قال الشيخ: وهؤلاء إن أرادوا أن هذا الجنس مختص بالحنفاء، لا يحج يهودي ولا نصراني، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، فهو من لوازم الحنيفية، كما أنه لم يكن مسلما إلا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأما قبل محمد صلى الله عليه وسلم فكان بنو إسرائيل على ملة إبراهيم، وكان الحج مستحبا قبل محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكن مفروضا، ولهذا حج موسى ويونس وغيرهما من الأنبياء.
ثم قال: ولكن تحريم المحرمات لا يشاركهم فيه أهل الكتاب، والختان يشاركهم فيه اليهود، وأطال في الرد والنقل عن ابن قتيبة، وذكر كلام ابن عطية في قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [سورة الضحى آية: 7] أنه أعانه وأقامه على غير الطريق التي كان عليها، هذا قول الحسن والضحاك.
قال: والضلال يختلف، فمنه القريب ومنه البعيد، وكون الإنسان واقفا لا يميز، بين المهيع، ضلال قريب; لأنه لم يتمسك بطريقة ضالة، بل كان يرتاد وينظر.
قال: والمنقول أنه كان عليه السلام قبل النبوة يبغض عبادة الأصنام، ولكن لم يكن ينهى عنها نهيا عاما، وإنما كان ينهى خواصه، وساق ما رواه أبو يعلى الموصلي، وفيه: فأتى النبي فطاف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وكان عند الصفا والمروة صنمان من نحاس، أحدهما إساف والآخر نائلة.
وكان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد: "لا تمسحهما فإنهما رجس فقلت في نفسي: لأمسنهما حتى أنظر ما يقول، فمسستهما، فقال: يا زيد ألم تنه؟ " وقال أبو عبد الله المقدسي: هذا حديث حسن له شاهد في الصحيح، والحديث معروف قد اختصره البيهقي وزاد فيه.
قال زيد بن حارثة: "والذي أكره وأنزل عليه الكتاب، ما استلم صنما قط، حتى أكرمه الله بالذي أكرمه"، وفي قصة بحيرا الراهب حين حلف باللات والعزى، فقال النبي: "لاتسألن باللات والعزى، فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا قط". وكان الله قد نزهه عن أعمال الجاهلية، فلم يكن يشهد مجامع لهوهم، وكان إذا هموا بشيء من ذلك، ضرب الله على أذنه فأنامه.
وقد روى البيهقي وغيره في ذلك آثارا، وقد كانت قريش يكشفون عوراتهم لحمل حجر ونحوه، فينزهه الله عن ذلك، كما في الصحيحين من قول جابر، وفي مسند أحمد زيادة: "فنودي لا تكشفن عورتك، فألقى الحجر ولبس ثوبه"، وكانوا يسمونه الصادق الأمين، وكان الله عز وجل قد صانه عن قبائحهم، ولم يعرف منه قط كذبة ولا خيانة، ولا فاحشة، ولا ظلم قبل النبوة، بل شهد مع عمومته حلف المطيبين على نصرة المظلومين.
وأما الإقرار بالصانع وعبادته، والإقرار بأن السماوات والأرض مخلوقة له محدثة بعد أن لم تكن، وأنه لا خالق غيره، فهذا كان عامتهم يعرفونه ويقرون به ; فكيف لا يعرفه هو ويقر به؟ وذكر الشيخ بعض علامات النبوة وتغير العالم بمولده.
ثم قال: لكن هذا لا يجب أن يكون مثله لكل نبي، فإنه أفضل الأنبياء، وهو سيد ولد آدم; والله سبحانه إذا أهل عبدا لأعلى المنازل والمراتب رباه على قدر تلك المرتبة; فلا يلزم إذا عصم نبيا أن يكون معصوما قبل النبوة من كبائر الإثم والفواحش، صغيرها وكبيرها; ولا يكون كل نبي كذلك.
ولا يلزم إذا كان الله بغض إليه شرك قومه قبل النبوة، أن يكون كل نبي كذلك، كما عرف من حال نبينا صلى الله عليه وسلم؛ وفضائله لا تناقض ما روي من أخبار غيره إذا كان كذلك، ولا يمنع كونه نبيا، لأن الله فضل بعض النبيين على بعض، كما فضلهم بالشرائع والكتب والأمم؛ وهذا أصل يجب اعتباره.
وقد أخبر الله أن لوطا كان من أمة إبراهيم، وممن آمن له أن الله أرسله; والرسول الذي نشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم، ثم يبعثه الله فيهم، يكون أكمل وأعظم ممن كان من قوم لا يعرفونه; فإنه يكون بتأييد الله له أعظم من جهة تأييده بالعلم والهدى، ومن جهة تأييده بالنصر والقهر.
قلت: وبهذا يظهر اختلاف درجات الأنبياء والرسل، وعدم الاحتجاج إلى التكلف في الجواب عن مثل آية إبراهيم ونحوها، وأن قصارى ما يقال في مثل قوله لنبينا: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [سورة الضحى آية: 7]، وقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ} [سورة الشورى آية: 52] هو عدم العلم بما جاء من النبوة والرسالة، وتفاصيل ما تضمن من الأحكام الشرعية والأصول الإيمانية.
وهذا غاية ما تيسر لنا في هذا المقام الضنك الذي أحجم عنه فحول الرجال وأهل الفضائل والكمال، ونستغفر الله من التجاسر والوثوب على الكلام في مثل هذا المبحث الذي زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام واضطربت فيه أقوال الأئمة الأعلام] اهـ.