وقد أكدت روايات عديدة على أن الرأي العام في آخر أيام عمر بن الخطاب كان متوجها إلى بيعة عثمان بن عفان , فقد سأل عمر حذيفة بن اليمان في الحج فقال: من ترى قومك مؤمرين من بعدي؟ قال حذيفة: رأيت الناس قد أسندوا أمرهم إلى عثمان بن عفان" (تاريخ المدينة ابن شبة3/ 392 , بسند صحيح) ,وقال خارجة بن مضرب: "حججتُ مع عمر فلم يكونوا يشكُون أن الخلافة من بعده لعثمان" (المصنف , ابن أبي شيبة38230, بسند صحيح).
ثم ما صوره الجابري من خلافات سياسية بين بني هاشم وبين أمية في عهد كبار الصحابة غير صحيح , فإنه لم يكن بينهم شيئا من مخلفات الجاهلية , وكان كثيرا من ولاة النبي صلى الله عليه وسلم من بني أمية , وقد تزوج منهم وهم تزوجوا من بني هاشم , وهذا كله يدل على أن الإسلام اقتلع مخلفات الجاهلية من نفوسهم
وهذا الدلائل فضلا عما سبق تقديمه من الأدلة العقلية والحالية كلها تدل على خلاف ما توصل إليه الجابري حين صور أن الصحابة تخلوا عن قيم الإسلام ورجعوا إلى مبادئ الجاهلية بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
المثل الرابع: أن الجابري عول كثيرا على المصادر المشكوك فيها في تحليل الحوادث الواقعة في جيل الصحابة , فقد اعتمد كثيرا على كتاب " الإمامة والسياسة" , وتكرر ذكره في كتابه "العقل السياسي" أكثر من خمس وثلاثين مرة , واعتمد عليه وحده في أكثر من عشرين مرة , وكان أحد ما اعتمد عليه في نقل تفاصيل ما حدث بين الصحابة يوم السقفية.
وهذا الاعتماد من الجابري مخالف للمنهجية العملية الصلبة التي تستوجبها حالة جيل الصجابة , فهذا الجيل قامت الأدلة العقلية والحالية على تفوقه الإيماني والعلمي وعلى صلابته في التمسك بالقيم الإسلامية , وهذه الحالة تحتم الاحتياط الشديد في نسبة أي موقف يخالف ذلك , فهل من الاحتياط الشديد أن نعتمد على كتاب مشكوك في نسبته , وهل من الالتزام بالمنهجية العملية التحليلية أن نبادر إلى إزهاق تفوقات الصحابة بالاعتماد على مثل كتاب الإمامة والسياسة , المنسوب إلى ابن قتيبة.
والغريب حقا أن الجابري نفسه متوجس من صحة نسبة ذلك الكتاب ابن قتيبة , فإنه قال عنه:" لعل أقدم كتاب وصلنا في هذا الموضوع –الإمامة- هو كتاب الإمامة والسياسة , المنسوب إلى المؤرخ الكبير والمؤلف السني الواسع الإطلاع أبي محمد عبدالله ابن قتيبة الدينوري , وعلى الرغم من الشكوك التي تحوم حول صحة نسبة هذا الكتاب إلى ابن قتيبة , وعلى الرغم من الهنات والأخطاء التي سجلها عليه الباحثون المختصون , فإنه يبقى مع ذلك أول محاولة سنية في الكلام في الإمامة " (تكوين العقل العربي108).
فهل يجوز في المنهجيات العلمية الصارمة التي تراعي الأحوال المحيطة بالقضية ولا تغفل عن الاحتياط الشديدة التي توجبها الأدلة المحيطة بها أن نعتمد على مثل كتاب الإمامة والسياسة؟!