وأنكر بعض الأصوليين وعلى رأسهم الشريف التلمساني إعمال قاعدة النسخ في أقوال الإمام كما هي في النصوص الشرعية، فالإمام هو مجتهد يجوز عليه الخطأ في اجتهاده الثاني مثلما جوزه هو على نفسه في اجتهاده الأول مالم يكن رجع عن الاول بنص، ويرى التلمساني رحمه الله أن المجتهد يمكنه أن يرجح القول الاول إذا رآه أجرى على قواعد المذهب أما المقلد فعليه اتباع آخر القولين، ونقل قريبا من رأيه عن الإمام محمد بن أحمد بن أبي جمرة ومثل لذلك بما في العتبية في سماع عيسى: من قال لامرأته: أنت طالق إن كلمتني حتى تقولي أحبك، فقالت غفر الله لك إني أحبك، فقال: حانت لقولها غفر الله لك قبل قولها أحبك.
قال ابن القاسم: ولقد اختصمت أنا وابن كنانة لمالك فيمن قال إن كلمتك حتى تفعلي كذا فأنت طالق، ثم قال لها فاذهبي الآن، فقلت: حانت وقال ابن كنانة: لايحنث. فقضى لي مالك عليه ... وصوب أصبغ قول ابن كنانة.7)
- الضابط الثاني: ترجيح ما يجري على أصول المذهب من الأقوال المتعارضة.
وبه قال الشريف التلمساني وعدد من المحققين داخل المذهب،ـ فنجد حافظ المذهب ابن رشد الجد رحمه الله لما تعرض للمسألة المذكورة آنفا من تصويب مالك قول ابن القاسم عل رأي ابن كنانة، اختار بدوره رأي ابن كنانة ثم قال: " يوجد بالمذهب مسائل ليست على أصوله تنحو لمذهب أهل العراق "، فابن رشد اختار خلاف قول ابن القاسم رغم تصويب مالك له، كما نحى إلى ذلك أصبغ جريا على أصول المذهب، ولم يعبأوا بقضاء مالك لابن القاسم، وذلك لما رأوه خارجا عن أصول مذهبه، ولذلك قال ابن رشد: إن هذه المسائل ليست على أصوله.8)
وقد أعمل ابن رشد هذه القاعدة حتى أصبحت مسلكا من مسلك التعامل مع الخلاف المتعلق بتعدد الروايات المنقولة عن الإمام وتعارضها 9) وهذا المسلك الذي يقوم على الانطلاق من قواعد المذهب وأصوله في الترجيح وتقديم ما يوافقه وتأخير ما يخالفه، هو في الحقيقة مسلك قديم سلكه أحد تلامذة الإمام وهو الدراوردي لما لاحظ عليه الخروج عن أصوله، حين عمد إلى تقدير أقل الصداق بنصاب السرقة فجعله ثلاث دراهم مجاراة لأهل العراق في قولهم في ذلك بالقياس وهو مخالف لحديث: " التمس ولو خاتما من حديد " فقال له: لقد تعرقت يا أبا عبد الله، قال ابن تيمية: أي لقد صرت فيها إلى قول أهل العراق ... 10)
الضابط الثالث: ذهب بعض المالكية إلى اعتبار ما يعزوه ابن القاسم إلى مالك هو آخر أقواله دائما وذلك بالنظر إلى علمه وورعه وكثرة ملازمته له.11)
ولذلك نجد أن أغلب المالكية يقولون بترجيح وتقديم رواية ابن القاسم في المدونة على رواية غيره , وتقديم رواية ابن القاسم في المدونة على رواية ابن القاسم عن مالك في غيرها من كتب أمهات المذهب.
وقد برز بالأندلس اتجاه يرجح رواية أهل المدينة عن مالك على رواية ابن القاسم وغيره من المصريين، وتزعمه عبد الملك بن حبيب وابن تارك الفرس كما ذكره صاحب رياض النفوس. 12) وسار على نهجهم عبد الله بن حمود السلمي المتوفى سنة 357ه الذي أخذ عن شيخه عيسى بن مسكين كتب ابن الماجشون وكان قد حلف ألا يسمعها له فلما رأى من إصراره أسمعها له وكفر عن يمينه. 13)
وذكر عياض أن محمد بن خالد المعروف بابن الصغير وفضل ابن سلمة الفقيه العارف بروايات المذهب واختلاف أصحاب مالك كانا يميلان إلى ترجيح رواية المدنيين وفقههم على روايات المصريين بما فيهم ابن القاسم، غير أن هذا الاتجاه على وجاهته لم يلق الترحيب من أهل الاندلس الذين كانوا أميل إلى فقه المدونة وترجيح قول ابن القاسم.14)
ــــ
قائمة المراجع والمصادر:
- المعيار المعرب للونشريسي ج1 ص 2671
- الديباج المذهب لابن فرحون ص2672
- ترتيب المدارك للقاضي عياض ج4 ص4463
- النوادر والزيادات لابن أبي زيد ج1 ص15و164
- نشر البنود ج2 ص2745
6 - مجلة دعوة الحق العدد 391 السنة الخمسون مقال عن الاختلاف المذهبي للاستاذ عبد الكريم بناني ص141
7 - تطور المذهب المالكي بالغرب الاسلامي للدكتور محمد شرحبيلي ص
8 - نيل الابتهاج بهامش الديباج ص262 و263 و264 بتصرف
9 - البيان والتحصيل لابن رشد ج6 ص136
10 - صحة أصول أهل المدينة لابن تيمة ج1 ص21
11 - انظر المعيار للونشريسي وكشف النقاب الحاجب لابن فرحون ص68
12 - رياض النفوس لأبي بكر عبد الله بن محمد المالكي ج1 ص477
13 - المقتبس لابن حيان ص290و 291
14 - ترتيب المدارك للقاضي عياض ج6 ص85
ـ[أبو يوسف المالكي]ــــــــ[26 - 07 - 10, 07:30 م]ـ
موضوع جيد وحري بمزيد من الدراسة، خاصة مسألة تقديم قول ابن القاسم في المدونة على أقرانه من باقي التلاميذ كابن وهب خاصة.
ـ[ابونصرالمازري]ــــــــ[27 - 07 - 10, 01:13 ص]ـ
حبذا لو يثير بعض الاخوة أمورا تستحق المناقشة و المتابعة، كان يورد بعض ما يظنه بعض الطلبة أمورا ضعيفة في المذهب ضمن هذا الباب